الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ندوب المسجد )

                                                                                                                            ش : أي : ويستحب للمقيم بمكة إذا أراد أن يحرم منها بالحج أن يحرم من المسجد ، وهذا هو : المشهور ، وهو مذهب المدونة قال فيها : واستحب مالك لأهل مكة ولمن دخلها بعمرة أن يحرم بالحج من المسجد الحرام انتهى .

                                                                                                                            وعن ابن حبيب أن المستحب أن يحرم من باب المسجد ، وقيل : لا يستحب الإحرام من المسجد ، ولا من بابه بل يحرم من حيث شاء ، وظاهر كلام ابن الحاجب أن هناك قولا بلزوم الإحرام من المسجد واعترض عليه بأنه لا خلاف في عدم اللزوم ونص كلام ابن الحاجب : وفي تعيين المسجد قولان انتهى .

                                                                                                                            قال ابن عبد السلام : وأكثر النصوص استحباب ذلك ، وظاهر كلام المؤلف : أن القولين في الوجوب ، ولم أر ذلك لغيره إلا لابن بشير انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) ليس في عبارة ابن بشير تصريح بالوجوب ، ونصه : ومريد ذلك يعني الإحرام لا يخلو من أن يبعد بلده أو يقرب أو يكون في الحرم ثم قال ، فإن كان من أهل مكة أو ممن دخلها ثم أنشأ الإحرام منها ، فإن أراد الحج أحرم من مكانه ، ومن أين ؟ هل [ ص: 27 ] من داخل المسجد ; لأنه أقصى الممكن في البعد عن الحل فأشبه المواقيت أو من حيث شاء من مكة في ذلك ؟ قولان انتهى فتأمله .

                                                                                                                            ، وقال في التوضيح وقوله : يعني ابن الحاجب ففي تعيين المسجد للإحرام قولان أي : يستحب تعيين المسجد إذ لا خلاف في عدم اللزوم انتهى .

                                                                                                                            ونحوه لابن فرحون ، وقال بعد ذكر القول الثاني بعدم الاستحباب ، وهو حسن لحديث جابر أهللنا بالأبطح واعترض ابن عرفة على من أنكر القول باللزوم بأنه مفهوم من كلام الشيخ ابن أبي زيد وسماع أشهب وكلام ابن رشد عليه ولنذكر كلامه برمته قال منها فيها إحرام مريده من مكة ، وفيها أيضا يستحب من المسجد الحرام وسمع القرينان يحرم من جوف المسجد قيل : من بيته قال بل من جوف المسجد قيل : من عند باب المسجد قال : لا بل من جوف المسجد ابن رشد ; لأن السنة كون الإحرام إثر نفل بالمسجد ، فإذا صلى وجب إحرامه من مكانه ; لأن التلبية إجابة إلى بيته الحرام أو بخروجه يزداد من البيت بعدا بخلاف خروجه من غيره من مساجد المواقيت إذ بخروجه يزداد من البيت قربا اللخمي قوله : في المبسوط من حيث شاء من مكة أصوب الباجي في كون إحرامه من داخل المسجد أو بابه روايتا أشهب وابن حبيب وقول ابن عبد السلام أكثر النصوص استحباب المسجد ، ولم يحك لزومه غير ابن بشير قصورا لنقل الشيخ رواية محمد وسماع أشهب يحرم من بيته قال : بل من جوف المسجد وعبارة ابن رشد عنه يوجب انتهى .

                                                                                                                            ويشير لقول ابن رشد في شرح مسألة سماع القرينين المتقدم ذكره ، فإذا صلى في المسجد وجب أن يحرم من مكانه ، ولا يخرج إلى باب المسجد ; لأن التلبية إجابة الله إلى بيته الحرام فهو بخروجه من المسجد يزداد بعدا من البيت بخلاف خروجه من غيره من مساجد المواقيت بخروجه يزداد قربا انتهى .

                                                                                                                            والظاهر : أن قول ابن رشد وجب أن يحرم من مكانه لم يرد به الوجوب الذي هو أحد الأحكام الخمسة ، وإنما مراده به اللزوم والترتب ، وكثيرا ما يقع ذلك في عبارة ابن بشير وغيره ، قال في الطراز في مسألة ما إذا أفسد الأجير حجه ، وأنه يلزمه قضاؤه ، ولا يجزئه أما كونه لا يجزئه فمتفق عليه إلا ما ذكره عن المزني ثم رده وأطال ثم قال : وإذا لم يجزئ عن الميت وجب أن يكون لفاعله ، وقال في المعونة في باب الأذان والأفضل أن يكون متطهرا ; لأنه دعاء إلى الصلاة فيجب أن يكون الداعي إليها على صفة من يمكنه أن يصلي انتهى .

                                                                                                                            وقال في الطراز في غسل الإحرام ، وإذا ثبت الغسل للإحرام وجب أن يكون متصلا به ، وقال في كتاب العقيقة من البيان لما ذكر أن المولود إذا مات قبل السابع لا يعق عنه ; لأن العقيقة إنما يجب ذبحها في يوم السابع ، ومثل هذا كثير في عباراتهم ، ولو فهم ابن رشد الرواية المذكورة على الوجوب لنبه على أنها مخالفة لمذهب المدونة كما هو عادته فتأمله منصفا ( تنبيه ) : إذا قلنا : يحرم من داخل المسجد ، فإنه يحرم من موضع صلاته ويلبي ، وهو جالس في موضعه كما يفهم ذلك من نصوصهم لا سيما كلام ابن رشد المتقدم حيث قال : وإذا صلى في المسجد وجب أن يحرم من مكانه ، ولا يخرج إلى باب المسجد إلى آخر ما تقدم وفهم منه أنه لا يلزمه أن يقوم من مصلاه ، ولا أن يتقدم إلى جهة البيت ; لأن ذلك لو كان مطلوبا لنبهوا عليه ، ولم أر في كلام أصحابنا استحباب موضع مخصوص من المسجد ، وقال الشافعي في أحد قوليه : يحرم من قرب البيت إما تحت الميزاب أو غيره ، وقال صاحب المفهم من الحنابلة : من تحت الميزاب ، والله أعلم .

                                                                                                                            ص ( كخروج ذي النفس لميقاته )

                                                                                                                            ش : يعني أن من كان مقيما بمكة يستحب له إذا كان في نفس من الوقت أن يخرج إلى ميقاته للإحرام بالحج وتقدم بيانه ، وظاهر كلامه أن هذا خاص بالحج وليس كذلك ، بل وكذلك من أراد العمرة استحب له الخروج لميقاته قال في النوادر عن كتابابن المواز : قال مالك : والمواقيت في [ ص: 28 ] الحج والعمرة سواء إلا من منزله في الحرم أو بمكة فعليه في العمرة أن يخرج للحل ، وأقل ذلك التنعيم وما بعد مثل الجعرانة فهو أفضل ، ولو خرج الطارئ إلى ميقاته كان أفضل انتهى .

                                                                                                                            ، وقال في الجلاب والعمرة من الميقات أفضل منها من الجعرانة أو التنعيم قال التلمساني إنما قال ذلك ; لأن الأصل في الإحرام إنما هو من الميقات ، وإنما رخص لمن بمكة من الجعرانة أو التنعيم ، وإن لم يبلغوا مواقيتهم ، وإلا فالأفضل لهم الإحرام من مواقيتهم انتهى .

                                                                                                                            وفهم من كلام التلمساني أن كلام ابن الجلاب في غير أهل مكة ، وهو ظاهر ، والله أعلم .

                                                                                                                            ص ( ولها ، وللقران الحل والجعرانة أولى ثم التنعيم )

                                                                                                                            ش : يعني أن الميقات المكاني للعمرة والقران لمن كان بمكة طرف الحل من أي جهة كانت ، ولو بخطوة واحدة ، والأفضل أن يبعد عن طرف الحل وأفضل جهات الحل الجعرانة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها ولبعدها ثم يليها في الفضل التنعيم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر السيدة عائشة أن تعتمر منها وقوله هنا : ثم التنعيم أحسن من قوله في مناسكه أو التنعيم ; لأنه لا يقتضي تفضيل الجعرانة على التنعيم ، وقد تقدم التصريح بأفضليتها في كلام النوادر والجعرانة بالتخفيف والتشديد وصوب الشافعي الأول ، وقال : إن التشديد خطأ وأكثر المحدثين على التشديد ، وقال في القاموس الجعرانة ، وقد تكسر العين وتشدد الراء ، وقال الشافعي التشديد خطأ موضع بين مكة والطائف انتهى .

                                                                                                                            ، وهي إلى مكة أقرب بكثير ; لأن بينها وبين مكة ثمانية عشر ميلا ، وظاهر كلام أهل المذهب أن الجهات بعدهما متساوية وزاد الشافعية بعد التنعيم الحديبية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحلل فيها ، وهي بضم الحاء وفتح الدال المهملتين ويجوز في يائها الثانية التخفيف والتشديد ، وصوب الشافعي التخفيف وأكثر المحدثين على التشديد ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( فوائد : الأولى ) : اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة كان في ذي القعدة حين قسم غنائم حنين كما ثبت ذلك في الصحيح ، وما ذكره المحب الطبري عن الواقدي أن إحرامه بالعمرة منها كان ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ثم قال المحب الطبري ومنها يحرم أهل مكة في كل عام في ليلة سبع عشرة من ذي القعدة ، وذلك خلاف ما ذكره الواقدي انتهى .

                                                                                                                            قال القاضي تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام ، ما ذكره المحب الطبري يخالف ما أدركنا عليه أهل مكة ، فإنهم يخرجون من مكة في اليوم السادس عشر من ذي القعدة ويقيمون اليوم السابع عشر بالجعرانة ويصلون المغرب بها ليلة الثامن عشر ويحرمون ويتوجهون إلى مكة ، وهو يلائم ما ذكره الواقدي إلا أن في بعض السنين يحصل للناس خوف فيخرجون من الجعرانة محرمين قبل الغروب من اليوم السابع عشر وربما خرجوا منها قبل صلاة العصر وبعده قبل الغروب انتهى .

                                                                                                                            وعلى ما ذكره القاضي تقي الدين أدركنا عليه عمل أهل مكة لكن يخرج الكثير منهم قبل صلاة العصر ، وبعدها قبل الغروب من غير حصول خوف ، وفي هذا الفعل الذي يفعلونه أمور منها أنهم يفعلونها قبل الوقت الذي فعلها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان ، ومنها أن الإحرام بالعمرة في هذا الوقت يفوت فضيلة الإفراد بالحج لمن يحج في عامه ، ومنها اتخاذ ذلك سنة في كل عام ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما صادف اعتماره هذا في ذلك الوقت ، ولم يشهر ذلك ، ولم يأمر به ، ومنها أن هناك حجرا محفورا يسمونه صحفة النبي صلى الله عليه وسلم وصخرة عظيمة يسمونها ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فيجتمع الرجال والنساء عندهما ويعجنون في الصحفة عجينا ويقطعونه قطعا صغارا يضعونها في الدراهم للبركة ويحملون من مائها ويصرون ذلك مع قطع العجين للمقيمين بمكة ، ومن فضائل الجعرانة أن ما ذكره الجندي عن ابن مالك أنه اعتمر من [ ص: 29 ] الجعرانة ثلاثمائة نبي ، وفيها ماء شديد العذوبة يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم فحص موضع الماء بيده المباركة فانبجس فشرب منه وسقى الناس ويقال : إنه غرز فيه رمحه فنبع ، وقد استوفيت الكلام على ذلك مع مزيد فوائد عديدة تتعلق بأحكام العمرة والجعرانة والتنعيم في شرح مناسك الشيخ خليل فمن أراد الشفاء في ذلك فليراجعه ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثانية ) أمره صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أن يخرج بأخته عائشة رضي الله عنها كان في حجة الوادع وذلك : أنها أحرمت بالعمرة فحاضت قبل أن تطوف وتسعى للعمرة ، وأدركهم وقت الوقوف قبل أن تطهر فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تردف الحج على العمرة فلما قضت الحج قالت : يرجع الناس بنسكين وأرجع أنا بنسك واحد يعني يرجع الناس بنسكين مفردين وترجع هي بنسك واحد أي : بصورة نسك ، فإن عمل العمرة اضمحل فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم ، وفي بعض روايات الحديث ، وهذه مكان عمرتك ، وتقدم في عبارة ابن رشد أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء عمرتها بعد انقضاء حجها ، وتقدم أن المعنى في ذلك أن صورتها صورة القضاء لا أنها قضاء حقيقة ; إذ لا يلزمها قضاء ، وإنما يستحب لها أن تأتي بعمرة كما سيأتي عند قول المصنف : وإن أردف لخوف فوات أو لحيض ، وفي مراسيل أبي داود عن ابن سيرين قال : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة التنعيم ، وقال سفيان هذا حديث لا يعرف ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية