الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما الزواجر عما تصرم من الجرائم التي لا تسقط عقوبتها إلا باستيفائها أو بعفو مستحقها فله أمثلة : أحدها : أن يقذف رجلا محصنا قذفا موجبا للحد فيجب عليه إعلامه ليستوفيه أو يعفو عنه ، وإن أقر بذلك عند الحكام فهل يجب على الحاكم إعلام مستحقه به ؟ فيه خلاف . والمختار إيجابه لقوله صلى الله عليه وسلم : { واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها } ، لم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم حرصا منه على إقامة حد الزنا وإنما ذكر ذلك نصحا للمقذوفة حتى إذا كانت عفيفة تخيرت بين حد القذف والعفو عنه ، وإن اعترفت بالزنا رجمها .

المثال الثاني : القصاص في النفوس والأطراف يجب على الجاني إعلام [ ص: 189 ] مستحقه به ليستوفيه أو يعفو عنه ، وإن وقع ذلك عند الحاكم فينبغي أن يخرج على الخلاف في وجوب الإعلام .

المثال الثالث : إذا سرق مال إنسان سرقة موجبة للقطع لم يجب عليه الإعلام بالسرقة بل يخبر مالك السرقة بأن له عليه مالا بقدر المسروق إن كان تالفا ليستوفيه أو يبرئه ولا يتعرض لذكر السرقة لأن زاجرها حد من حدود الله ، فالأولى بمرتكبها أن يسترها على نفسه ، وإن كان المسروق باقيا رده ، أو وكل من يرده من غير اعتراف بسرقة ، ولا يوكل مع القدرة على الرد بنفسه ، إذ ليس له رد المغصوب إلى غير مالكه إلا إلى الحاكم وأمثاله ممن يجوز له انتزاع المغصوب من الغاصب .

المثال الرابع : حد قطع الطريق إن محصناه لله فهو كحد السرقة يجبر بالمال لمستحقه ولا يذكر سببه سترا على نفسه ، وإن جعلنا فيه مع تحتمه حقا للآدمي وجب إعلامه به ليستوفيه أو يتركه فيستوفيه الإمام .

وأما ما الأولى بالتسبب إليه ستر سببه على نفسه ، فحكمه حكم الزنا والشرب والسرقة والأولى بفاعلها سترها على نفسه ، وإن أظهرها للأئمة ليستوفوها جاز ذلك ، وإن كان معلنا بكبيرة لما يبتنى على إظهارها من إقامة شعار الدين وزجر المفسدين عن الفساد ، ويكره للمذنب المجرم أن يكشف عيوبه ويجهر بذنوبه لقوله صلى الله عليه وسلم : { وكل أمتي معافى إلا المجاهر الذي يبيت يعصي ربه ثم يصبح يقول : فعلت كذا كذا فيفضح نفسه بعد أن ستره ربه } .

وأما الشهود على هذه الجرائم فإن تعلق بها حقوق للعباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يعرفوا بها أربابها ، وإن كانت زواجرها حقا محضا لله فإن كانت المصلحة في إقامة الشهادة بها فيشهدوا بها ، مثل أن يطلعوا من إنسان على تكرر الزنا والسرقة والإدمان على شرب الخمور وإتيان الذكور ، فالأولى أن [ ص: 190 ] يشهدوا عليه دفعا لهذه المفاسد ، وإن كانت المصلحة في الستر عليه مثل زلة من هذه الزلات تقع ندرة من ذوي الهيئات ثم يقلع عنها ويتوب منها فالأولى أن لا يشهدوا ، وقد { قال صلى الله عليه وسلم : لضرار في حق ماعز : هلا سترته بثوبك يا ضرار ؟ } وجاء في حديث : { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم } وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال : { ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة } . فإن قيل : إذا علم الشهود أن الزاني قد تاب من الزنا فصلحت حاله بحيث يجوز لهم تزكيته فهل لهم أن يشهدوا عليه بالزنا بعد ذلك ؟ قلنا : إن أسقطنا الحد بالتوبة لم تجز الشهادة ، وإن بقينا الحد مع التوبة جازت الشهادة ، والأولى كتمانها . فإن قيل : ما معنى قول الفقهاء وجب عليه التعزير والحد والقصاص ؟ قلنا : هو مجاز عن وجوب تمكينه من استيفاء العقوبات لإجماع العلماء على أنه لا يجب على الجاني أن يقتل نفسه ، ولا على الجارح أن يجرح نفسه ولا على الزاني أن يجلد نفسه ولا أن يرجمها ، وكذلك المعزر ، وقد صرح الرب بإيجاب أداء الأمانات إلى أهلها ، وأداؤها عبارة عن تمكين أهلها من قبضها وأخذها ، فكذلك وجوب العقوبات على ذوي الجرائم .

التالي السابق


الخدمات العلمية