الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن جن رمضان كله لم يقضه ) خلافا لمالك [ ص: 367 ] هو يعتبره بالإغماء . ولنا أن المسقط هو الحرج والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج ، والجنون يستوعبه فيتحقق الحرج ( وإن أفاق المجنون في بعضه قضى ما مضى ) خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله . هما يقولان لم يجب عليه الأداء لانعدام الأهلية ، والقضاء مرتب عليه ، وصار كالمستوعب . ولنا أن السبب قد وجد وهو الشهر [ ص: 368 ] والأهلية بالذمة ، وفي الوجوب فائدة وهو صيرورته مطلوبا على وجه لا يخرج في أدائه ، بخلاف المستوعب لأنه يخرج في الأداء فلا فائدة [ ص: 369 ] وتمامه في الخلافيات ، ثم لا فرق بين الأصلي والعارضي ، قيل هذا في ظاهر الرواية . وعن محمد رحمه الله أنه فرق بينهما لأنه إذا بلغ مجنونا التحق بالصبي فانعدم الخطاب بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن ، وهذا مختار بعض المتأخرين

التالي السابق


( قوله ومن جن رمضان كله ) قال الحلواني : المراد فيما يمكنه إنشاء الصوم فيه ، حتى لو أفاق بعد الزوال من اليوم الأخير لا يلزمه القضاء لأن الصوم لا يصح فيه كالليل ، والذي يعطيه الوجه الآتي ذكره خلافه .

( قوله فيكون عذرا في التأخير لا في الإسقاط ) رتبه بالفاء على كونه لا يزيل العقل بل يضعفه نتيجة له . فحاصله لما كان غير مزيل لم يسقط فيتبادر منه أنه لو أزاله كان مسقطا وليس كذلك ، فإن الجنون مزيل له ولا يسقط به من حيث هو مزيل له بل من حيث هو ملزم للحرج ، فكان الأولى في التعليل التعليل بعدم لزوم الحرج في إلزام قضاء الشهر بالإغماء فيه كله بخلاف جنون الشهر كله ، فإن ترتيب قضاء الشهر عليه موجب للحرج ، وهذا لأن امتداد الإغماء شهرا من النوادر لا يكاد يوجد وإلا كان ربما يموت ، فإنه لا يأكل ولا يشرب ولا حرج في ترتيب الحكم على ما هو من النوادر ، بخلاف الجنون فإن امتداده شهرا غالب فترتيب القضاء معه موجب للحرج .

وقد سلك المصنف مسلك التحقيق في تعليل عدم إلزام القضاء بجنون الشهر ، حيث قال : ولنا أن المسقط هو الحرج . ثم قال : والإغماء لا يستوعب الشهر عادة فلا حرج ، فأفاد تعليل وجوب قضاء الشهر إذا أغمي عليه فيه كله بعدم الحرج ، وهو في الحقيقة تعليل بعدم المانع لأن الحرج مانع ، لكن المراد أن انتفاء [ ص: 367 ] الوجوب إنما يكون لمانع الحرج ولا حرج لندرة امتداد الإغماء شهرا .

وبسط مبنى هذا أن الوجوب الذي يثبت جبرا بالسبب أعني أصل الوجوب لا يسقط بعدم القدرة على استعمال العقل لعدمه أو ضعفه ، بل ينظر فإن كان المقصود من متعلقه مجرد إيصال المال لجهة كالنفقة والدين ثبت الوجوب مع هذا العجز ، لأن هذا المقصود يحصل بفعل النائب فيطالب به وليه ، وإن كان من العبادات والمقصود منها نفس الفعل ليظهر مقصود الابتلاء من اختيار الطاعة أو المعصية فلا يخلو من كون هذا العجز الكائن بسبب عدم القدرة على استعمال العقل مما يلزمه الامتداد أو لا يمتد عادة أو قد وقد .

ففي الأول لا يثبت الوجوب كالصبا لأنه يستتبع فائدته ، وهي إما في الأداء وهو منتف إذ لا يتوجه عليه الخطاب بالأداء في حالة الصبا أو في القضاء وهو مستلزم للحرج البين فانتفى ، وفي الثاني لا يسقط الوجوب معه ، بل يثبت شرعا ليظهر أثره في الخلف وهو القضاء فيصل بذلك إلى مصلحته من غير حرج رحمة عليه كالنوم ، فلو نام تمام وقت الصلاة وجب قضاؤها شرعا ، فعلمنا أن الشرع اعتبر هذا العارض بسبب أنه لا يمتد غالبا عدما إذ لا حرج في ثبوت الوجوب معه ليظهر حكمه في الخلف ، ثم لو نام يومين أو ثلاثة أيام وجب القضاء أيضا لأنه نادر لا يكاد يتحقق فلا يوجب ذلك تغير الاعتبار الذي ثبت فيه شرعا ، أعني اعتباره عدما إذ لا حرج في النوادر ، وفي الثالث أدرنا ثبوت الوجوب وعدمه على ثبوت الحرج إلحاقا له إذا ثبت بما يلزمه الامتداد ، وإذا لم يثبت بما لم يمتد عادة فقلنا في الإغماء يلحق في حق الصوم بما لا يمتد وهو النوم ، فلا [ ص: 368 ] يسقط معه الوجوب ، إذا امتد تمام الشهر بل يثبت ليظهر حكمه في القضاء لعدم الحرج إذ لا حرج في النادر لأن النادر إنما يفرض فرضا ، وربما لم يتحقق قط وامتداد الإغماء شهرا كذاك .

وفي حق الصلاة بما يمتد إذا زاد على يوم وليلة لثبوت الحرج بثبوت الكثرة بالدخول في حد التكرار فلا يقضي شيئا وبما لا يمتد وهو النوم إذا لم يزد عليها لعدم الحرج ، وقلنا في الجنون في حق الصلاة كذلك على ما قدمناه في باب صلاة المريض لاتحاد اللازم فيهما ، وفي حق الصوم إن استوعب الشهر ألحق بما يلزمه الامتداد لأن امتداد الجنون شهرا كثير غير نادر .

فلو ثبت الوجوب مع استيعابه لزم الحرج ، وإذا لم يستوعبه بما لا يمتد لأن صوم ما دون الشهر في سنة لا يوقع في الحرج . وأيضا أنه يؤدي إلى عدم وجوب القضاء إذا كان الجنون في الغالب يستمر شهرا وأكثر . وهذا التقرير يوجب أن لا فرق بين الأصلي والعارضي وبين أن يفيق المجنون في وقت النية من آخر يوم أو بعده خلافا لما قاله الحلواني وإن اختاره بعضهم ، ثم نقل المصنف عن محمد أنه فرق بينهما على ما هو في الكتاب ، وقدمنا في الزكاة الخلاف في نقل هذا الخلاف فجعل هذا التفصيل قول أبي يوسف ، وقول محمد عدم التفصيل .

وقيل الخلاف على عكسه وهو ما نقله المصنف ، ومنهم من أيد التفصيل بثبوت التفصيل شرعا في العدة بالأشهر والحيض بناء على أصلية امتداد الطهر وعارضيته ، فإن الطهر إذا امتد امتدادا أصليا بأن بلغت الصغيرة بالسن ولم تر دما فإنها تعتد بالأشهر بعد البلوغ ، ولو بلغت بالحيض ثم امتد طهرها اعتدت بالحيض فلا تخرج من العدة إلى أن تدخل سن الإياس ، فتعتد بالأشهر ، ولا يخفى على متأمل عدم لزومه فإن المدار فيما نحن فيه لزوم الحرج وعدمه وفي العدة المتبع النص وهو يوجب ذلك التفصيل . والله سبحانه وتعالى أعلم .

( قوله وفي الوجوب فائدة ) جواب عما قد يقال قولك الأهلية بالذمة ومرجع الذمة إلى الآدمية يستلزم ثبوت أصل الوجوب على الصبي فقال : هو دائر مع الذمة لكن بشرط الفائدة لأنه يتلو الفائدة ، ولا فائدة في تحققه في حق الصبي لما ذكرنا من أنه عند العجز عن الأداء إنما يثبت ليظهر أثره في القضاء لتحصل مصلحة الفرض رحمة ومنة ، وإنما يكون ذلك فائدة إذا لم يستلزم إيجاب القضاء حرجا لأنه حينئذ فتح باب تحصيل المصلحة ، أما إذا استلزمه فهو معدوم الفائدة ظاهرا لأنه مقترن بطريق التفويت وهو الحرج .

وذلك باب العذاب لا الفائدة وإن كان قد ثبت له الأفراد من العباد فإن الفوائد الشرعية التي تستتبعها التكاليف إنما تراعى في حق العموم رحمة وفضلا لا بالنسبة إلى آحاد من الناس ، بخلاف ثبوته مع [ ص: 369 ] الجنون لأنه يستتبع الفائدة أو نقول : لا فائدة لأنها في القضاء ولا يجب القضاء للحرج ، فلو ثبت الوجوب لم يكن لفائدة ( قوله وتمامه في الخلافيات ) إذا حققت ما قدمناه آنفا تحققت تمامه .




الخدمات العلمية