الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 43 ] ( ومن كان له وطن فانتقل عنه واستوطن غيره ثم سافر ودخل وطنه الأول قصر ) ; لأنه لم يبق وطنا له ; ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين ; وهذا لأن الأصل أن الوطن الأصلي يبطل بمثله دون [ ص: 44 ] السفر ، ووطن الإقامة يبطل بمثله وبالسفر وبالأصلي

.

التالي السابق


( قوله : فانتقل عنه واستوطن غيره ) قيد بالأمرين فإنه إذا لم ينتقل عنه بل استوطن آخر بأن اتخذ له أهلا في الآخر فإنه يتم في الأول كما يتم في الثاني . ( قوله : عد نفسه من المسافرين ) هو في الحديث المذكور آنفا حيث قال { فإنا قوم سفر } . ( قوله : وهذا ; لأن الأصل إلخ ) قيل الأوطان ثلاثة : وطن أصلي وهو مولد الإنسان أو موضع تأهل به ومن قصده التعيش به لا الارتحال ، ولو تزوج المسافر في بلد لم ينو الإقامة فيه قيل يصير مقيما وقيل لا .

ووطن إقامة وهو ما ينوي الإقامة فيه خمسة عشر يوما فصاعدا على نية أن يسافر بعد ذلك . ووطن سكنى وهو ما ينوي الإقامة به أقل من خمسة عشر يوما . والمحققون على عدم اعتبار الثالث ; لأنه يوصف السفر فيه كالمفازة ، ولذا تركه المصنف . والأصلي لا ينتقض إلا بالانتقال عنه واستيطان آخر كما قلنا لا بالسفر ولا بوطن الإقامة ، ووطن الإقامة ينتقض بالأصلي ووطن الإقامة والسفر . وتقديم السفر ليس بشرط لثبوت الأصلي بالإجماع ، وهل هو شرط لثبوت وطن الإقامة ؟ عن محمد فيه روايتان : في رواية لا يشترط كما هو ظاهر الرواية ، وفي أخرى إنما يصير الوطن وطن إقامة بشرط أن يتقدمه سفر ويكون بينه وبين ما صار إليه منه مدة سفر ، حتى لو خرج من مصره لا لقصد السفر فوصل إلى قرية ونوى الإقامة بها خمسة عشر لا تصير تلك القرية وطن إقامة ، وإن كان بينهما مدة سفر لعدم تقدم السفر ، وكذا إذا قصد مسيرة سفر وخرج فلما وصل إلى قرية مسيرتها من وطنه دون مدة السفر ثم نوى الإقامة بها خمسة عشرلا يصير مقيما ولا تصير تلك القرية وطن إقامة .

والتخريج على الروايتين في شرح الزيادات : بغدادي وكوفي خرجا من وطنهما يريدان قصر ابن هبيرة ليقيما به خمسة عشر ، وبين كوفة وبغداد خمسة مراحل والقصر منتصف ذلك ، فلما قدماه خرجا منه إلى الكوفة ليقيما بها يوما ثم يرجعا إلى بغداد فإنهما يتمان الصلاة بها إلى الكوفة ; لأن خروجهما من وطنهما إلى القصر ليس سفرا ، وكذا من القصر إلى الكوفة فبقيا مقيمين إلى الكوفة ، فإن خرجا من الكوفة إلى بغداد يقصران الصلاة ، وإن قصد المرور على القصر ; لأنهما قصدا بغداد وليس لهما وطن ، أما الكوفي ; فلأن وطنه بالكوفة نقض وطن القصر . وأما البغدادي فعلى رواية الحسن يتم الصلاة ، وعلى رواية هذا الكتاب : يعني الزيادات يقصر . وجه رواية الحسن أن وطن البغدادي بالقصر صحيح ; لأنه نوى الإقامة في موضعها ولم يوجد [ ص: 44 ] ما ينقضها ، وقيام وطنه بالقصر يمنع تحقق السفر .

وجه رواية هذا الكتاب أن وطن الإقامة لا يكون إلا بعد تقديم السفر ; لأن الإقامة من المقيم لغو ، ولم يوجد تقديم السفر فلم يصح وطنه بالقصر فصار مسافرا إلى بغداد انتهى . ورواية الحسن تبين أن السفر الناقض لوطن الإقامة ما ليس فيه مرور على وطن الإقامة أو ما يكون المرور فيه به بعد سير مدة السفر . ومثاله : في ديارنا قاهري خرج إلى بلبيس فنوى الإقامة بها خمسة عشر ، ثم خرج منها إلى الصالحية ، فلما دخلها بدا له أن يرجع إلى القاهرة ويمر ببلبيس ، فعلى رواية اشتراط السفر بوطن الإقامة يقصر إلى القاهرة ، وعلى الأخرى يتم .

ومثال انتقاض وطن الإقامة بمثله يبين ما قلنا أيضا ، وهو ما ذكروه من خراساني قدم الكوفة ونوى الإقامة بها شهرا ثم خرج منها إلى الحيرة ونوى المقام بها خمسة عشر يوما ثم خرج من الحيرة يريد العود إلى خراسان ومر بالكوفة فإنه يصلي ركعتين ; لأن وطنه بالكوفة كان وطن إقامة ، وقد انتقض بوطنه بالحيرة ; لأنه وطن إقامة مثله ، وكذا وطنه بالحيرة انتقض بالسفر ; لأنه وطن إقامة فكما خرج من الحيرة على قصد خراسان صار مسافرا ولا وطن له في موضع فيصلي ركعتين حتى يدخل خراسان ، وإن لم يكن نوى الإقامة بالحيرة خمسة عشر يوما أتم الصلاة بالكوفة ; لأن وطنه بالكوفة لم يبطل بالخروج إلى الحيرة ; لأنه ليس بوطن مثله ولا سفر فيبقى وطنه بالكوفة كما كان .

ولو أن الخراساني ارتحل من الكوفة يريد مكة فقبل أن يسير ثلاثة أيام ذكر حاجة بالكوفة فعاد فإنه يقصر ; لأن وطنه بالكوفة بطل بالسفر ، بخلاف ما لو عزم على العود إلى الوطن الأصلي فإنه إذا لم يكن بين هذا الموضع الذي بلغ إليه ووطنه مسيرة سفر يصير مقيما ، وإن كان بينهما مدة سفر لا يصير مقيما فيقصر حتى يدخل وطنه ; لأن العزم في الوجه الأول ترك السفر ، فنية الإقامة قبل استحكام السفر على ما تقدم . وفي الوجه الثاني ترك السفر إلى جهة قصده إلى جهة أخرى فبقي مسافرا كما كان .

وفي النوادر : خرج من مصره مسافرا ثم افتتح للصلاة فسبقه حدث فلم يجد الماء فنوى أن يدخل مصره وهو قريب صار مقيما من ساعته دخل مصره أو لم يدخل ; لأن قصد الدخول ترك السفر فحصلت النية مقارنة للفعل فصحت ، فإذا دخله صلى أربعا ، فإن علم قبل [ ص: 45 ] أن يدخله أن الماء أمامه فمشى إليه فتوضأ صلى أربعا أيضا ; لأنه بالنية صار مقيما ، فبالمشي بعد ذلك في الصلاة أمامه لا يصير مسافرا في حق تلك الصلاة ، وإن قارنت النية فعل السفر حقيقة ; لأنه لو جعل مسافرا لفسدت ; لأن السفر يمنع عنه حرمة الصلاة ، بخلاف الإقامة ; لأنها ترك السفر وحرمة الصلاة لا تمنعه عنه ، فلو تكلم حين علم أن الماء أمامه أو أفسد الصلاة بمفسد ثم وجد الماء فتوضأ ، إن وجده في مكانه صلى أربعا ، وإن مشى أمامه حتى وجده صلى ركعتين ; لأنه صار مسافرا ثانيا بالمشي بنية السفر خارج الصلاة ، بخلاف المشي في حرمة الصلاة .

وقد تكرر لنا أن المسافر يصير مقيما بنية الإقامة في حرمة الصلاة حتى يتم أربعا ، فلنتمم الكلام فيه بذكر ما يستثنى من ذلك وما يتفرع عليه فنقول : يصير مقيما بنية الإقامة في الصلاة حتى يتغير فرضه إلى الرباعية ، إلا إن خرج الوقت وهو فيها فنوى الإقامة لتقرر الفرض ركعتين بخروج الوقت ، وإلا أن يكون لاحقا فراغ إمامه المسافر ثم نوى الإقامة ; لأن اللاحق مقتد حكما حتى لا يقرأ ولا يسجد للسهو ، ففراغ الإمام كأنه فراغه وبه يستحكم الفرض ولم يبق محتملا للتغير في حق الإمام ، فكذا في حق اللاحق ، بخلاف المسبوق .

وإذا عرف هذا فلو نواها بعدما قعد قدر التشهد ولم يسلم تغير ، وكذا لو كان قام إلى الثالثة ساهيا قعد أولا فنواها قبل أن يسجد ; لأنه لم يخرج عن المكتوبة قبل النية إلا أنه يعيد القيام والركوع ; لأنهما نفل فلا ينوبان عن الفرض ، فإن لم ينو حتى سجد لا يتغير ; لأن النية وجدت بعد خروجه منه ، ولكنه يضيف إليها أخرى ; ليكون التطوع بركعتين فيما إذا كان قعد وبأربع فيما إذا لم يكن قعد لما عرف في سجود السهو عندهما ، ولا يضم عند محمد لفساد أصل الصلاة بفساد الفرضية ، ولو أن مسافرا صلى الظهر ركعتين وترك القراءة فيهما أو في إحداهما وتشهد ثم نواها قبل السلام أو قام إلى الثالثة ثم نواها قبل أن يسجد تحول فرضه أربعا عندهما ويقرأ في الأخريين قضاء عن الأوليين . وعند محمد تفسد صلاته لما مر من فساد الصلاة عنده بترك القراءة في ركعة ، وكان القياس على قول أبي حنيفة أن تفسد لما سلف له من فسادها بتركها في ركعتين ، لكنه استحسن هنا فقال ببقاء التحريمة ، وإن تركت القراءة في الركعتين ; لأن صلاة المسافر بعرض أن تلحقها مدد نية الإقامة فيقضي القراءة في الباقي فلا يتحقق تقرر المفسد إلا بالخروج عن تلك الصلاة ، بخلاف فجر المقيم ، ولا يشكل لو نواها بعد السجود أنها تفسد بالإجماع ، ولو نواها بعد السلام وعليه سهو تقدم أنه يتغير عند محمد خلافا لهما بناء على أن سلام من عليه السهو يخرجه أو لا ؟




الخدمات العلمية