الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 99 ] التاسعة : اتفاق الخلفاء الأربعة ليس إجماعا ; وكذا أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وأولى . والخلاف عن أحمد فيهما يفيد أنه حجة . وإجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين ليس بحجة خلافا لمالك .

                لنا : العصمة للأمة لا للبعض ولا للمكان ; قال : يمتنع اتفاق الجم الغفير من أهل الاجتهاد على الخطأ عادة .

                قلنا : باقي الأمة أكثر ، فالتمسك بهذا في حقهم أولى .

                التالي السابق


                المسألة " التاسعة : اتفاق الخلفاء الأربعة " بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع مخالفة غيرهم لهم " ليس إجماعا ، وكذا " اتفاق الشيخين " أبي بكر وعمر ، وأولى " أي : إذا لم يكن اتفاق الأربعة إجماعا ، فقول اثنين منهم أولى أن لا يكون إجماعا ودليل ذلك ما سبق من أن العصمة تثبت لمجموع الأمة ، وهؤلاء بعضها .

                قوله : " والخلاف عن أحمد فيهما يفيد أنه حجة " يعني أن أحمد - رحمه الله - نقل عنه الخلاف في المسألتين ، فنقل عنه انعقاد الإجماع باتفاق الأربعة ، وباتفاق الشيخين فقط ، وهو قول القاضي أبي حازم في اتفاق الأربعة ، ويلزمه القول بذلك في الشيخين أيضا .

                وحجة هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر [ ص: 100 ] وعمر ، ولو لم تقم الحجة بقولهم ، لما أمرنا باتباعهم .

                والجواب : أن سنة الخلفاء الراشدين إن كانت هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا اختصاص لهم بها ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه دل على اعتبار قول جميع الأمة لا بعضها ، وإن كانت غير سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم تعتبر ، فكان الإجماع الذي دل عليه الدليل السمعي أولى بالاتباع ، وإن سلمنا اعتبار سنتهم ، فإما أن لا تعتبر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سنتهم ، أو تعتبر معها ، فإن لم تعتبر ، لزم استقلال سنتهم بالصواب ، مع مخالفتها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو باطل بإجماع . وإن اعتبرت معها سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لم تستقل سنتهم بإصابة الحق ، لأن ما اعتبر له سببان ، أو علق على سببين ، لم يحصل بأحدهما .

                أما قوله - صلى الله عليه وسلم - : وسنة الخلفاء الراشدين ; فهو تعريف بصفة الخلافة مع الرشاد ، فلا يختص بالأربعة ولا بالشيخين ، بل يتناول كل خليفة راشد ، فيجب أن يضم في الاعتبار إلى قولهم قول كل من اتصف بذلك كعمر بن عبد العزيز ونحوه .

                سلمنا أن المراد بالخلفاء الراشدين الأربعة المذكورون ، لكن الأمر باتباع سنتهم لا ينفي اعتبار بقية الأمة معهم ، إذ بقية الأمة مسكوت عنهم في الحديث . وقد دل دليل الإجماع على اعتبار قولهم ، فصار تقدير الحديث : [ ص: 101 ] عليكم بسنة الخلفاء الراشدين الموافقة لقول باقي أمتي ، وخص الخلفاء الراشدين بالذكر لأنهم رؤساء الأمة وخيرها وأفضلها .

                سلمنا أن المراد اتباع سنتهم فقط ، لكن ليس ذلك نصا في أن اتفاقهم إجماع ، فيحمل على اتباعهم في الفتيا ، أو السياسة ، أو الرواية ، أو تفسير القرآن ، يقدم قولهم في ذلك ، لقدم عهدهم في الإسلام ، ورسوخهم فيه ، أو على أن قولهم حجة . وقد بينا أن ليس كل حجة إجماعا ، وعليه حمل ما دل عليه قول أحمد ، من أنه لا يخرج عنهم إلى قول غيرهم .

                سلمنا أن المراد أن اتفاقهم إجماع ، لكن هاهنا ما يعارضه ، وهو أن اتفاقهم بمجرده ، لو كان إجماعا ، للزم أن يكون قول كل واحد أو اثنين منهم إجماعا ، ولا قائل به ، وإنما قلنا ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه . وقال عمر : وافقت ربي في ثلاث ، ونقل عن الصحابة أنهم قالوا : كنا نرى أن مع عمر ملكا يسدده ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث يرويه مشرح ابن هاعان : " لو كان نبي بعدي ينتظر ، لكان عمر " وقال في علي : اللهم [ ص: 102 ] أدر الحق معه حيثما دار . ولما بعثه إلى اليمن قاضيا ، قال : يا رسول الله ، إنه لا علم لي بالقضاء ، فقال : اذهب ، فإن الله سيهدي قلبك ، ويسدد لسانك ، قال : فما شككت في قضية بعد ، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن عمر مضروب بالحق على قلبه ولسانه ، وهو شهادة له بالعصمة من الخطأ ، ودعا لعلي بدوران الحق معه ، وأخبر أن الله سيهدي قلبه ، ويسدد لسانه حتى قال : أقضاكم علي وهو شهادة له أيضا بذلك ، فوجب لذلك أن يكون قولهما معا ، أو قول كل منهما حجة قاطعة . وإذا ثبت ذلك فيهما ، لزم ثبوته في أبي بكر ، لأنه أفضل من عمر ، وفي عثمان لأنه أفضل من علي عند الجمهور ، لكن القول بأن قول كل منهم حجة قاطعة ، لم يقل به أحد إلا الشيعة في علي ، لاعتقادهم عصمته .

                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فالكلام عليه نحو من الكلام على الذي قبله ، ثم هما معارضان بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أصحابي [ ص: 103 ] كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، وأيضا فلو قدر أن سائر الصحابة خالفوا الشيخين في حكم ; فالأخذ بالقولين وإلغاؤهما باطل ، وتقديم قولهما مع خلاف الأكثر لهما بعيد ، وهو مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم - : اتبعوا السواد الأعظم و يد الله على الجماعة ونحوه ، فبان بما ذكرناه ضعف القول بأن اتفاق الأربعة أو الشيخين إجماع ، وأن حمل ما نقل عن أحمد مما يدل على ذلك ; على أن قولهم حجة ظنية لا قاطعة متعين ، والله تعالى أعلم .



                قوله : " وإجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين ليس بحجة ، خلافا لمالك " وحده ، فإن إجماعهم عنده حجة فيما طريقه التوقيف ، ومن أصحابه من قال : هو حجة مطلقا في نقل نقلوه ، أو في عمل عملوه .

                " لنا : " أي : على أنه ليس بحجة على من خالفهم أن العصمة لمجموع الأمة ، وهم بعضها لا جميعها ، فلا تثبت العصمة لقولهم ، فلا يكون إجماعا ، بل يكون حجة ظنية يعمل به إذا خلا عن معارض راجح .

                قوله : " ولا للمكان " إشارة إلى أن المدينة ورد في فضلها نصوص كثيرة ، فربما ظن ظان أن ذلك يدل على أن اتفاق أهلها إجماع ، وليس كذلك ، فأجاب بأن العصمة ليست للمكان ، وإلا لكانت مكة أولى بذلك من المدينة أو مساوية لها فيه ، لأنها أفضل من المدينة عند الأكثرين ، وإنما العصمة للأمة جميعها .

                قوله : " قال : " يعني مالكا : احتج بأن أهل المدينة جم غفير ، شاهدوا [ ص: 104 ] التنزيل ، وعلموا التأويل ، وتناقل ذلك الأبناء عن الآباء ، والخلف عن السلف ، و " اتفاق الجم الغفير من أهل الاجتهاد على الخطأ " ممتنع في العادة ، فوجب أن يكون قولهم صوابا في العادة ، فيجب اتباعه .

                قوله : " قلنا : باقي الأمة أكثر ، فالتمسك بهذا في حقهم أولى " . أي : إن دلت كثرة مجتهدي المدينة على صواب ما اتفقوا عليه ، فبقية الأمة أكثر منهم ، فلتكن أكثريتهم أدل على صواب قولهم من كثرة أهل المدينة على صواب قولهم .

                ويتقرر هذا الجواب بطريق آخر ، منبه عليه بما ذكرته ، وهو أن يقال : لو قدر أن باقي الأمة خالفوا أهل المدينة في حكم ، فإما أن يؤخذ بقول الفريقين ، أو يترك قولهما ، وهما باطلان ، لما سبق في اعتبار قول العامي ، أو يقدم قول أهل المدينة مع أن باقي الأمة أكثر منهم ، وهو بعيد ، مخالف للأمر باتباع السواد الأكثر .

                وقوله : " يمتنع اتفاق الجم الغفير من المجتهدين على الخطأ عادة " .

                قلنا : بقية مجتهدي الأمة جم غفير ، فيمتنع عليهم الخطأ عادة ، ثم هو معارض بأهل الكوفة ، فإن عليا - رضي الله عنه - ، وابن مسعود ، وجماعة من أعيان الصحابة والتابعين ، كانوا بها ، كما روى أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي المروزي في كتاب " العلم " بإسناده عن ابن سيرين قال : [ ص: 105 ] قدمت الكوفة ، فوجدت فيها أربعمائة فقيه .

                قلت : يعني من الصحابة والتابعين ، واتفاق مثل هؤلاء على الخطأ يمتنع عادة ، وبه احتج بعض الناس أظنهم أصحاب الرأي على أن إجماع أهل الكوفة حجة ، ومالك لا يقول به .

                ومما احتج به المالكية وجهان آخران :

                أحدهما : أن روايتهم مقدمة على رواية غيرهم ، وكذا اتفاقهم ، وليس ذلك بلازم ، لأن الاتفاق مستنده العصمة السمعية ، وليست مختصة بهم ، بخلاف الرواية .

                الوجه الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والخطأ خبث ، فوجب نفيه عن أهلها .

                والجواب من وجهين : أحدهما : أن هذا الحديث ورد على سبب ، وهو أن أعرابيا دخل المدينة ، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأصابته فيها حمى ، فسأله إقالة البيعة ليخرج إلى البادية ، فلم يجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك ، فخرج بغير إذنه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن المدينة كالكير تنفي خبثها ، ويتضيع طيبها .

                [ ص: 106 ] وعند مالك : أن الاعتبار بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، كما سبق في باب العموم .

                الوجه الثاني : أن الخبث في عرف اللغة لا يفيد الخطأ ، مطابقة ، ولا تضمنا ، ولا التزاما ، فكيف يستدل بالحديث على نفي الخطأ ، ولئن جاز للمالكية الاحتجاج بنفي الخبث عن المدينة ; على أن اتفاق أهلها حجة ، جاز للشيعة الاحتجاج بنفي الرجس عن أهل البيت ; على أن اتفاقهم حجة ، لأن دلالة الرجس على الخطأ لا تتقاصر عن دلالة الخبث عليه ، بل هو أدل على الخطأ من الخبث ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .

                قلت : وبعد هذا كله ; في النفس إلى قول مالك في هذه المسألة طمأنينة ، وسكون قوي جدا ، فالتوقف فيها غير ملزم .




                الخدمات العلمية