الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 332 ] الثالث : تخلف الحكم لفوات محل أو شرط لا لخلل في ركن العلة ، نحو : البيع علة الملك ، فينتقض بيع الموقوف والمرهون ، والسرقة علة القطع ، فتنتقض بسرقة الصبي أو دون النصاب ، أو من غير حرز فلا تفسد العلة ، وفي تكليف المعلل الاحتراز منه بذكر ما يحصله خلاف بين الجدليين يسير الخطب ، وما سوى ذلك ناقض ، وفي العلة الخلاف السالف ، أما المعدول عن القياس فإن فهمت علته ألحق به ما في معناه كقياس عرية العنب على الرطب ، وأكل بقية المحرمات على الميتة للضرورة وإلا فلا ، كتخصيص أبي بردة بإجزاء جذعة المعز ، وخزيمة بن ثابت بكماله بينة ، والفرق بين بول الغلام والجارية ، إذ شرط القياس فهم المعنى ، وحيث لا فهم ، فلا قياس والله أعلم .

                التالي السابق


                القسم " الثالث " من أقسام تخلف الحكم عن العلة تخلفه لا لاستثناء عام عن قاعدة القياس ، ولا لمعارضة علة أخرى ، و " لا لخلل في ركن العلة " بل " لفوات محل أو شرط " كقولنا : " البيع علة الملك " وقد وقع ، فليثبت الملك في زمن الخيار ، " فينتقض ببيع الموقوف والمرهون " وأم الولد ، فقد حصل البيع فيه ، ولم يفد الملك . فيقال : لم يتخلف إفادة البيع الملك ، لكونه ليس علة لإفادته ، بل لكونه لم يصادف محلا ، وكقولنا : " السرقة علة القطع " وقد وجدت في النباش فيقطع ، " فتنتقض بسرقة [ ص: 333 ] الصبي ، أو سرقة " دون النصاب ، أو " السرقة " من غير حرز " فإنها لم توجب القطع .

                فيقال : ليس ذلك لكون السرقة ليست علة ، بل لفوات أهلية القطع في الصبي ، وفوات شرطه في دون النصاب ومن غير الحرز ، فهذا وأمثاله لا يفسد العلة ، لأن تأثير العلة يتوقف على وجود شروطها وانتفاء موانعها ، وهذا منه ، وهل يكلف المعلل أو المستدل على ثبوت الحكم بوجود علية الاحتراز من هذا " بذكر ما يحصله " كقوله : بيع صدر من أهله ، وصادف محله ، أو استجمع شروطه ، فأفاد الملك ، أو المكلف سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة فيه ، فوجب قطعه .

                هذا فيه " خلاف بين الجدليين " يعني أهل صناعة الجدل " يسير الخطب " أي : الخطب في هذا الخلاف ، أو في اشتراط هذا الاحتراز يسير ، لأن الجدل طريقة موضوعة لإظهار الصواب ، وسلوكها تابع لاصطلاح أهلها ، فإن كان اصطلاحهم ذلك كلفه المعلل ، وإلا فلا ، نعم الاحتراز منه أولى لأنه أجمع للكلام ، وأولى لنشره وتبدده ، فربما أفضى إلى تشعيب مناف للغرض .

                قوله : " وما سوى ذلك " يعني تخلف حكم العلة في الأقسام الثلاثة فهو " ناقض " للعلة ، لأن الأصل يقتضي انتقاضها بمطلق تخلف حكمها ، ترك [ ص: 334 ] ذلك في الأقسام الثلاثة لقيام الدليل عليه ، ففي غيرها يكون ناقضا عملا بالأصل .

                وقوله : " وفي العلة الخلاف السالف " أي : وإذا انتقضت بما سوى الأقسام الثلاثة ، ففيها الخلاف المتقدم ، وهي المذاهب الأربعة ، هل تبقى حجة مطلقا أو لا ؟ أو يفرق بين ما إذا كان التخلف لمانع ، أو كانت العلة منصوصة وما إذا لم يكن كذلك . وقد سبق هذا وتوجيهه في تخصيص العلة .

                قوله : " أما المعدول عن القياس ، فإن فهمت علته " إلى آخره . أي : المعدول عن القياس إما أن يعقل معناه ، أي : يعقل المعنى الذي عدل عن القياس لأجله ، أو لا ، فإن فهمنا علته ، جاز أن يلحق به ما في معناه ، كقياس عرية العنب على " عرية " الرطب " فنجيز بيع العنب بالزبيب فيما دون خمسة أوسق رخصة للناس ، وتوسعة عليهم إذا احتاجوا إليه ، لأن عرية الرطب لهذا المعنى ثبتت ، وهو مشترك بينهما ، وكقياس " أكل بقية المحرمات على " أكل " الميتة للضرورة " بجامع استبقاء النفس بذلك ، ويقاس عليه المكره على أكلها ، لأنه في معنى المضطر إلى التغذي بها بالجامع .

                وإن لم تفهم علته ، أي : علة المعدول عن القياس ، لم نلحق به غيره ، لأن معتمد الإلحاق فهم المعنى ، " وحيث لا فهم ، فلا قياس " وذلك " كتخصيص أبي بردة - رضي الله عنه - بإجزاء جذعة المعز " في الأضحية دون غيره ، وتخصيص " خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - بكماله بينة " أي : [ ص: 335 ] بإقامة شهادته مقام شهادتين .

                أما حديث أبي بردة ، فرواه الشعبي عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم نحر ، فقال : لا يذبحن أحدكم حتى يصلي . قال : فقام خالي ، فقال : يا رسول الله ، هذا يوم اللحم فيه مكروه ، وإني عجلت نسكي لأطعم أهلي وأهل داري وجيراني ، قال : فأعد ذبحا آخر ، قال : يا رسول الله ، عندي عناق لبن ، وهي خير من شاتي لحم أفأذبحها ؟ قال : نعم ، وهي خير نسيكتيك ، ولا تجزئ جذعة لأحد بعدك .

                متفق عليه ، ورواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه .

                وأما حديث خزيمة - رضي الله عنه - ، فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من أعرابي فرسا ولم يكن بينهما أحد ، فلما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأتيه بالثمن ، ساوم الأعرابي رجال من الأنصار في الفرس ، وأعطوه أكثر مما باعه به من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهم لا يعلمون ذلك ، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال له الأعرابي : إن كنت تشتري الفرس ، وإلا بعته من غيرك ، فقال له : أوليس قد اشتريته منك ؟ فقال : لا ، وطفق الأعرابي يقول : هلم شهيدا ، فقال خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - : أنا أشهد أنك بعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف تشهد ولم تحضرنا ؟ فقال : شهدت بتصديقك يا رسول الله ، نصدقك في خبر السماء ولا نصدقك بأخبار الأرض ! ، أو كلام هذا معناه ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادتين .

                وهذه التخصيصات مما لا يفهم معناها ، فلا يلحق بها غير من خص بها ، وكذا التفريق " بين بول الغلام والجارية " ; لما لم يعقل الفرق بينهما ، لم [ ص: 336 ] يلحق بهما ذكور صغار البهائم وإناثها .

                قلت : المقصود هاهنا أنا حيث فهمنا المعنى ، ألحقنا ، وحيث لا فلا .

                أما بول الغلام والجارية ، فقد سبق به القول .

                وأما تكميل خزيمة بينة ، فقد زعم بعض أهل العلم أحسبه الخطابي في " معالم السنن " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكمله بينة وحده ، وإنما حكم في المسألة بعلمه .

                قلت : فيحتمل أن الراوي لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمضى الحكم مقارنا لشهادته على وفقها ، ظن أنه أقامه مقام شاهدين ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




                الخدمات العلمية