الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 155 ] وأما الثاني : فكاستصحاب العموم والنص حتى يرد مخصص أو ناسخ واستصحاب حكم ثابت كالملك وشغل الذمة بالإتلاف ونحوه .

                أما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف كالتمسك في عدم بطلان صلاة المتيمم عند وجود الماء بالإجماع على صحة دخوله فيها فيستصحب ، فالأكثر ليس بحجة خلافا للشافعي وابن شاقلا .

                لنا : الإجماع إنما حصل حال عدم الماء لا وجوده ، فهو إذن مختلف فيه ، والخلاف يضاد الإجماع ، فلا يبقى معه ، كالنفي الأصلي مع السمعي الناقل ، بخلاف العموم والنص ، ودليل العقل لا ينافيها الاختلاف فيصح التمسك بها معه والله أعلم .

                ونافي الحكم يلزمه الدليل خلافا لقوم ، وقيل : في الشرعيات فقط .

                التالي السابق


                قوله : " وأما الثاني " وهو التمسك بدليل شرعي لم يظهر عنه ناقل ; فهو كاف " كاستصحاب العموم والنص حتى يرد مخصص أو ناسخ " أي : كاستصحاب حكم العموم حتى يرد مخصص له ، واستصحاب حكم النص حتى يرد له ناسخ ، وإنما استعملت في عبارتي اللف والنشر ، وكذلك " استصحاب " كل " حكم ثابت ، كالملك " حتى يوجد ما يزيله ، كالبيع والهبة " وشغل الذمة " حتى يوجد ما يفرغها بأداء الدين إن كانت مشغولة بدين ، أو بأداء قيمة المتلف إن كانت مشغولة بإتلاف شيء ، وغير ذلك من الشواغل .

                تنبيه : كل ما كان أصلا في الدلالة وجب حمل اللفظ عليه ، حتى [ ص: 156 ] يقوم الدليل الناقل عنه ، فاللفظ يحمل على حقيقته حتى يقوم دليل المجاز ، وعلى العموم حتى يقوم دليل التخصيص ، وعلى الإفراد حتى يقوم دليل الاشتراك ، وعلى الاستقلال بالدلالة حتى يقوم دليل الإضمار ، وعلى الإطلاق حتى يقوم دليل التقييد ، وعلى التأصيل حتى يقوم دليل الزيادة ، وعلى الترتيب الواقع حتى يقوم دليل التقديم والتأخير ، وعلى التأسيس حتى يقوم دليل التأكيد ، وعلى الإحكام حتى يقوم دليل النسخ ، وعلى المعنى الشرعي حتى يقوم دليل اللغوي إذا كان اللفظ واردا من الشرع ، أو بالعكس إن كان واردا من أهل اللغة ، وعلى المعنى العرفي حتى يقوم دليل اللغوي ، كل ذلك عملا باستصحاب الحال الراجح ، والعمل بالراجح متعين ، فالاستصحاب إذن على ضربين : حكمي ، ولفظي .

                قوله : " أما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف ، كالتمسك في عدم بطلان صلاة المتيمم عند وجود الماء بالإجماع " أي : بأن يقال : أجمعنا " على صحة دخوله فيها " أي : في الصلاة بالتيمم " فيستصحب " حال تلك الصحة " فالأكثر ليس بحجة ، خلافا للشافعي وابن شاقلا " .

                وقال الآمدي : منع الغزالي وجماعة من الأصوليين من استصحاب حكم الإجماع في محل الخلاف ، وجوزه آخرون . قال : وهو المختار ، كما نقول : أجمعنا على حصول الطهارة من الحدث قبل خروج الخارج [ ص: 157 ] النجس من غير السبيلين ، فيستصحبها بعد خروجه .

                قلت : وكذا قولنا : أجمعنا على أن هذا مالك للصيد قبل الإحرام ، فيستصحب حكم الملك بعد الإحرام ، وأجمعنا على أن هذا مالك لما في يده قبل الردة ، فيستصحب الملك بعد الردة ، ونحو ذلك .

                قال ابن المعمار البغدادي : قال أبو ثور وداود والصيرفي : وهو دليل يعني استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف .

                قوله : " لنا : " أي : على أن هذا الاستصحاب ليس بحجة أن " الإجماع " في صورة التيمم مثلا " إنما حصل حال عدم الماء " . أما حال وجوده " فهو " " مختلف فيه ، والخلاف يضاد الإجماع " فلا يجتمعان ، ولا يبقى الإجماع مع الخلاف حال عدم الماء مثلا ، كما أن النفي الأصلي الدال على عدم الحكم لا يبقى مع الدليل السمعي الناقل عن حكم النافي ، لكونه يضاده . وهذا " بخلاف العموم والنص ، ودليل العقل " كالقياس ونحوه ، فإن الاختلاف في الحكم " لا ينافيها " " فيصح التمسك بها " مع الاختلاف ، ولا كذلك الإجماع ، فإن الخلاف ينافيه ، فلا يصح التمسك به معه .

                احتج الخصم بأن الحكم ثابت قبل الخلاف بالإجماع ، والأصل في كل متحقق دوامه لما سبق ، فيكون هذا الحكم دائم الثبوت ، وهو المطلوب .

                [ ص: 158 ] والجواب : أن الأصل في كل متحقق دوامه ما لم يوجد ما ينافيه ، وقد بينا أن الخلاف الحادث ينافي الإجماع الأول ، فلا يبقى الحكم مجمعا عليه ، وهو المطلوب .

                وأيضا ثبوت الحكم في محل الخلاف يستدعي دليلا ، والأدلة منحصرة في النص ، والإجماع ، والقياس ، والاستدلال ، ولا شيء منها في محل النزاع في صورة التيمم والطهارة قبل خروج الخارج مثلا .

                فإن قيل : الاستصحاب ضرب من الاستدلال ، وقد دل على ثبوت الحكم في محل النزاع .

                قلنا : إن سلمنا أنه استدلال ، فهو معارض بما ينافيه ، فلا يبقى معه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                فائدة : القاعدة العقلية والشرعية : أن الأقوى لا يرفع بالأضعف ، فقد يقال على هذا : إن البراءة الأصلية قاطعة ، وقد رفعها الشرع بالقياس في التكليفات ، وبالبينة الشرعية كرجلين ، ورجل وامرأتين في المعاملات ، وهذه أمور ظنية قد رفعت البراءة القاطعة ، فإنا نعلم قطعا براءة الواحد منا من وجوب غسل النجاسة من ولوغ أو غيره ، ومن تحريم شرب النبيذ ، ثم شغلنا ذمته بوجوب غسل النجاسة بقوله - عليه السلام - : حتيه ثم اقرصيه ، ثم اغسليه بالماء ، ثم صلي فيه ، وبقوله - عليه السلام - : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم . . . الحديث ، وقول ابن عمر - رضي الله عنهما - : أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعا . وشغلناها بتحريم النبيذ بقياسه على الخمر فكيف هذا ؟ [ ص: 159 ] والجواب : أما التكاليف الشرعية ، فلا نسلم أن الأصل براءة الذمم منها ، بل الأصل اشتغالها بها ، نظرا إلى أن الله - سبحانه وتعالى - لما استخرج الذرية من صلب آدم - عليه السلام - أمرهم بالسجود ، فسجدوا ، ثم أخذ عليهم الميثاق أنه إذا أرسل إليهم الرسل بالتوحيد ، والتكاليف بالعبادات أن يطيعوا ، وذلك معنى قوله - عز وجل - : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم إلى قوله : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [ الأعراف : 172 ] . فمن ذلك اليوم ; الذمم مشغولة بالتوحيد وأحكامه وفروعه ، وهو ثابت بحق الأصل فيها .

                وإنما انقطع التكليف في حق كل واحد منا فيما بين يوم أخذ الميثاق عليه ، ويوم بلوغه حد التكليف ، لعدم الأهلية فيما بين ذلك ، لكونه معدوما في تلك المدة ، وإن كان موجودا في علم الله - عز وجل - كما ينقطع في أثناء مدة التكليف الشرعي ، بالجنون والحيض ، وبأسباب الرخص . وحينئذ خبر الواحد والقياس ليس رافعا للبراءة القاطعة من التكليف ، بل مؤكد ومجدد لاشتغالها الأصلي به ، والضعيف قد يؤكد القوي ولا يرفعه ، وقول الفقهاء : الأصل عدم التكليف ; إنما هو بالنظر إلى زمن وجود المكلف في هذه [ ص: 160 ] الحياة ، وهذه النشأة ، أما بالنظر إلى أول أزمنة التكليف ، فهو يوم أخذ الميثاق الأول ، وهو النظر الصحيح إن شاء الله تعالى ، وبه يندفع الإشكال المذكور .

                وأما رفع البراءة الأصلية بالبينة الشرعية في المعاملات ، فنقول : المقطوع به في البراءة الأصلية إنما هو مجرد عدم اشتغالها بالحق المدعى به .

                أما دوام ذلك العدم إلى حين الدعوى ، فلا قاطع به ، لاحتمال أن هذا الغريم المدعى عليه بعد براءة ذمته الأصلية من حق خصمه ، شغلها بأن غصبه ، أو اقترض منه ، أو اشترى منه ، ونحو ذلك ، فالمدعي يدعي تجديد شغل ذمة المدعى عليه بعد فراغها ، والمدعى عليه ينكر ذلك ، ويدعي استمرار فراغ ذمته ودوامه ، فصار اختلافهما في دوام فراغ الذمة وعدمه بعد الاتفاق على فراغها الأصلي ، كالاختلاف بعد الإجماع في مسألة الاستدلال بالإجماع في محل الخلاف . وحينئذ لا تكون البينة الشرعية الظنية رافعة لأمر قطعي ، لأن القطعي هو ثبوت مجرد عدم شغل الذمة ، والبينة لا ترفع ذلك ، وإنما ترفع دوام ذلك العدم ، وهو ظني مختلف فيه ، وصارت البينة كالمرجح لقول أحد الخصمين المتنازعين ، وهو المدعي .

                فإن قيل : هذا تقرير متجه ، لكن يشكل عليه ما قرره الفقهاء من أن البينة إنما جعلت في جانب المدعي ، واليمين في جانب المدعى عليه ، لأن جانب المدعي ضعيف ، لدعواه خلاف الأصل ، وهو اشتغال ذمة المدعى عليه ، والأصل فراغها ، وجانب المدعى عليه قوي لدعواه وفق الأصل ، وهو فراغ ذمته [ ص: 161 ] من الحق ، والبينة أقوى من اليمين ، فجعلت الحجة التي هي أقوى في جانب الأضعف ، والتي هي أضعف في جانب الأقوى تعديلا .

                قلنا : هذا لا يشكل على ما قررناه ؛ لأن هذا إنما يقتضي كون جانب المدعى عليه وهو المنكر راجحا ، لكن الرجحان أعم من أن يكون قاطعا أو غير قاطع ، ورجحان جانب المنكر غير قاطع ؛ لما قررناه من اختلافهما في دوام براءة ذمته القاطعة .

                وحينئذ نقول : جانب المنكر راجح لحصول القطع ببراءة ذمته بالجملة في وقت من الأوقات . فلهذا الرجحان ضممنا إليه الحجة الضعيفة ، وهي اليمين ، وليس ذلك الرجحان قاطعا ، حتى يكون رفعه بالبينة الشرعية رفعا للقاطع بالظني ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                قوله : " ونافي الحكم يلزمه الدليل ، خلافا لقوم . وقيل : في الشرعيات فقط " .

                اعلم أن الناس اختلفوا في المستدل على نفي الحكم كقوله : ما الأمر كذا ، أو ليس الأمر كذا ، فالمشهور وهو قول الأكثرين أنه يلزمه إقامة الدليل على نفي الحكم الذي ادعى نفيه ، ولا يكفيه مجرد دعوى النفي .

                وقال قوم : لا يلزمه الدليل على النفي ، كأنهم اكتفوا بكون دعواه موافقة للأصل ، وهو عدم الأشياء وانتفاؤها ، فمن ادعى وجودها وثبوتها ، فعليه الدليل ، ولهذا بنى بعضهم هذه المسألة على أن الاستصحاب حجة أم لا ؟

                إن قلنا : هو حجة ، فلا دليل على النافي

                وإن قلنا : ليس بحجة ، فعليه الدليل .

                [ ص: 162 ] قلت : وهذا التفريع ضعيف ؛ لأنا قد بينا رجحان وجوب الدليل عليه مع قولنا : إن الاستصحاب حجة ، فدل على أن كل واحدة من المسألتين أصل بنفسها .

                وقال آخرون : يلزمه الدليل " في الشرعيات " نحو : لا تشترط النية للصلاة ، ولا يلزمه في العقليات نحو : ليس العالم بقديم .




                الخدمات العلمية