الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 633 ] قالوا : قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا لا يعلم وأولي الأمر منكم وهم العلماء ، ولأن الأصل جواز التقليد ، ترك في من اجتهد لظهور الحق له بالفعل ؛ فمن عداه على الأصل .

                قلنا : المراد بقوله تعالى : فاسألوا : العامة ، ولا نسلم أنه لا يعلم بل يعلم بالقوة القريبة بخلاف العامي ، وأولو الأمر : الولاة ، وإن سلم أنهم العلماء فجوابه ما ذكر ، ثم هو معارض بعموم : فاعتبروا أفلا يتدبرون القرآن وقوله : لعلمه الذين يستنبطونه وهذا حث على الاستنباط .

                والتدبر ترك في العامي لعدم أهليته ، فبقي غيره على مقتضاه ، ووجه بقية التفاصيل ظاهر ، ودليل ضعفها عموم الدليل .

                التالي السابق


                قوله : " قالوا : " يعني من جوز التقليد احتجوا بوجوه :

                أحدها : قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] . " وهذا " وإن كان أهلا للاجتهاد ، لكنه " لا يعلم " هذا الحكم الخاص ، فيتناوله عموم هذا النص ، فجاز له التقليد كالعامي .

                الوجه الثاني : قوله تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، " وهم العلماء " ، أمر بطاعتهم ، وذلك بتقليدهم فيما يخبرون به عن الشرع ، والخطاب للمؤمنين ، وهو يتناول هذا المجتهد وغيره .

                الوجه الثالث : " أن الأصل جواز التقليد " لامتناع حصول أدوات الاجتهاد في كل أحد عادة " ترك " ذلك " في من اجتهد " وظن الحكم ، " لظهور الحق له بالفعل ، فمن عداه " يبقى " على الأصل " وهو جواز التقليد ، فثبت [ ص: 634 ] بهذه الوجوه أن هذا المجتهد المذكور يجوز له التقليد .

                قوله : " قلنا : " إلى آخره هذا جواب الوجوه المذكورة . أما قوله - عز وجل - : فاسألوا أهل الذكر ، فالمأمور بالسؤال هم " العامة " بدليل قوله - عز وجل - : إن كنتم لا تعلمون ، ولا نسلم أن هذا لا يعلم بل هو يعلم الحكم " بالقوة القريبة " من الفعل ، لأن الفرض أنه مجتهد ، " بخلاف العامي " ؛ فإنه لا سبيل له إلى معرفة الحكم بالاجتهاد .

                وأما قوله - عز وجل - : وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] فلا نسلم أنهم العلماء ، بل هم " الولاة " ، لأن ذلك هو المتبادر من لفظ : وأولي الأمر بدليل قوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء : 83 ] ، ولو كان أولو الأمر ههنا العلماء لم يستقم ، إذ لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والفرض أنه - عز وجل - لامهم على ترك الرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، وهم أمراؤهم ورؤساؤهم الذين التزموا طاعتهم .

                وإن سلمنا أن أولي الأمر هم العلماء " فجوابه ما ذكر " يعني في الجواب عن الوجه الأول من أن المأمور بطاعة العلماء هم العامة لا المجتهدون ، " ثم هو معارض بعموم " قوله - عز وجل - : فاعتبروا يا أولي الأبصار [ الحشر : 2 ] وقوله - عز وجل - : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ محمد : 24 ] وقوله - عز وجل - : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ ص: 635 ] أمر بالاعتبار وهو الاجتهاد ، وحض على التدبر والاستنباط ، وهو يدل على وجوبه على العموم ، " ترك في العامي لعدم أهليته " ففي غيره يبقى على مقتضاه في وجوب الاجتهاد وذلك يعارض ما ذكرتم من دلالة طاعة أولي الأمر على التقليد .

                قوله : " الأصل جواز التقليد " .

                قلنا : لا نسلم ، بل الأصل منعه ، لأنه أخذ بغير دليل .

                قوله : لامتناع حصول أدوات الاجتهاد في كل أحد عادة .

                قلنا : لا نسلم أن هذا يجيز التقليد . ثم الكلام فيمن حصل أدوات الاجتهاد .

                قلت : هذه المسألة المتنازع فيها واسطة بين طرفين ، فتجاذباها ، وذلك لأن العامي يقلد باتفاق ، والمجتهد إذا ظن الحكم باجتهاد لا يقلد باتفاق .

                أما المجتهد الذي لم يجتهد في الحكم ، ويظهر له فهو متردد بين الطرفين ، فبالنظر إلى أنه لم يحصل له ظن الحكم يلحق بالعامي ، وبالنظر إلى أن فيه أدوات الاجتهاد ، وهو قادر على معرفة الحكم بقوته القريبة من الفعل يلحق بالمجتهد الذي ظن الحكم في عدم جواز التقليد ، ولا يخفى أنه به أشبه ، وكذلك الكلام فيمن تمكن من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ، كالنحوي في مسألة نحوية ، والمحدث في مسألة خبرية تتعلق بعلم أحوال الرواة ، ونحو ذلك ؛ هو محل اجتهاد ، وإلحاقه بالعامي أشبه بخلاف المجتهد المستقل بمعرفة الحكم إذا اجتهد .

                فحصل من هذا الباب أن المراتب أربع : [ ص: 636 ] عامي محض .

                متمكن من الاجتهاد في البعض دون البعض .

                مجتهد كامل لم يجتهد .

                مجتهد كامل اجتهد وظن الحكم .

                فالطرفان قد عرف حكمهما وهو أن العامي يقلد ، والمجتهد بالفعل الظان للحكم لا يقلد ، والمجتهد الكامل الذي لم يجتهد مختلف فيه ، والأظهر أنه لا يقلد ، ويلحق به من اجتهد بالفعل ، ولم يظن الحكم لتعارض الأدلة أو غيره بطريق أولى ، والمتمكن من الاجتهاد في البعض دون البعض الأشبه أن يقلد ؛ لأنه عامي من وجه ، ويحتمل أن لا يقلد ، لأنه مجتهد من وجه ، فهو محل اجتهاد ، وله مراتب متعددة بحسب ما يتمكن من الاجتهاد فيه من المسائل .

                قوله : " ووجه بقية التفاصيل ظاهر " يعني التفاصيل المذكورة في " المختصر " وكذا في غيره .

                أما الفرق بين ضيق الوقت وسعته ، فلأن في تقليده مع ضيق الوقت تحصيلا للعمل في وقته بقول مجتهد ما ، فهو أولى من إخلاء الوقت عن وظيفته لتوقع ظهور الحكم بالاجتهاد .

                وأما الفرق بين ضيق الوقت وسعته ، فلأن في تقليده مع ضيق الوقت تحصيلا للعمل في وقته بقول مجتهد ما ، فهو أولى من إخلاء الوقت عن وظيفته لتوقع ظهور الحكم بالاجتهاد .

                وأما الفرق بين تقليده للعمل والفتيا ؛ فلأن تقليده ليعمل به هو تصرف فيما يخص نفسه من العمل ، فجاز . كتوكيله في حق نفسه ، بخلاف تقليده لفتيا الغير ، لأنه كتوكيله في حق غيره .

                وأما الفرق بين تقليده من هو أعلم منه دون غيره ؛ فلأن تقليده أعلم منه يفيده ظنا غالبا أعلى من ظهور ظنه ورتبته ، إذ الغالب أن الأعلم أقرب إلى الحق ، والإصابة عليه أغلب ، فصار كاجتهاده هو في الحكم بخلاف تقليده [ ص: 637 ] دونه ، إذ لا يفيده الظن ومن هو مثله ، إذ لا مرجح له على اجتهاده لنفسه .

                ويشبه هذا من مسائل الفروع أن من أودع شيئا وعين له موضعا ، فنقله المودع إلى أحرز منه ، لم يضمن إن تلف ، وإن نقله إلى مثله أو دونه ضمن .

                والفرق بين تقليده الصحابي دون غيره : أن الصحابي أقرب إلى الإصابة من غيره لما عرف من خصائص الصحابة رضي الله عنهم .

                قوله : " ودليل ضعفها عموم الدليل " أي : دليل ضعف التفاصيل المذكورة عموم الدليل المذكور على المنع من التقليد ، كما تقرر في الوجهين الأولين .




                الخدمات العلمية