الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 49 ] قالوا : السمعي خطاب لحاضريه فيختص بهم ، ولأن الموت لا يخرجهم عن المؤمنين والأمة ، فلا ينعقد بدونهم كالغائب .

                قلنا : الأول باطل بسائر خطاب التكليف ، فإنه عم وما خص ، والثاني باطل باللاحق ، لا يقال : الفرق ثبوت قول الماضي دونه ، لأنا نقول : الجامع العدم ، ولا قول لميت ، وعموم الأمة مخصوص بعدم اعتبار اللاحق ، فالماضي بالقياس عليه ، والغائب يمكن مراجعته واستعلام رأيه بخلاف الميت ، فإلحاقه باللاحق والصبي والمجنون أولى .

                التالي السابق


                قوله : " قالوا : السمعي خطاب لحاضريه " . هذا حجة الظاهرية ، وهي من وجهين :

                أحدهما : أن دليل السمع الذي ثبت به الإجماع " خطاب لحاضريه " أي : لحاضري ذلك الخطاب كقوله - عز وجل - : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] ، وقوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] ، الآيتين . وهذا خطاب للحاضرين " فيختص " بمقتضاه ، وهو كون الإجماع حجة " بهم " دون غيرهم ، لعدم تناول الخطاب له .

                الوجه الثاني : أن موت الصحابة - رضي الله عنهم - لا يخرجهم عن تناول المؤمنين والأمة لهم ، فلا ينعقد إجماع من بعدهم بدونهم كالغائب .

                قوله : " قلنا : " إلى آخره . هذا جواب ما ذكروه ، أي : قلنا : الجواب عن الوجه " الأول " وهو قولهم : " السمعي خطاب لحاضريه فيختص بهم " أنه [ ص: 50 ] " باطل بسائر خطاب التكليف " نحو : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] ونحوه كثير ، فإنه خطاب للحاضرين ، وعم غيرهم ممن بعدهم ، ولم يختص بهم .

                وعنه جواب آخر وهو : أن من نصوص الدليل السمعي ما ليس خطابا للحاضرين ، نحو قوله - عز وجل - : ومن يشاقق الرسول الآية ، وهي عامة في المخاطبين وغيرهم ، والأحاديث أيضا في ذلك عامة ، فبذلك يحصل العموم لغير الصحابة .

                والجواب عن " الثاني " وهو قولهم : " الموت لا يخرجهم عن المؤمنين ، [ والأمة ] فلا ينعقد بدونهم كالغائب " ; هو أنه " باطل باللاحق " وهو من سيوجد ، فإنه لا يخرجه تخلفه عن الموجود في الحال عن تناول المؤمنين له ، وقد انعقد الإجماع بدونه .

                قوله : " لا يقال : " إلى آخره ، هذا إيراد فرق بين السابق الميت وبين اللاحق الذي لم يوجد .

                وتقريره : أنهم قالوا : الفرق بين اللاحق والميت السابق : هو أن الميت السابق ثبت قوله ، واستقر ، وترتبت عليه الأحكام ، بخلاف اللاحق ، فإنه لم يوجد بعد ، فضلا عن أن يكون له اجتهاد وقول ، فلذلك اعتبر قول الميت السابق في الإجماع ، ولم يعتبر قول اللاحق .

                والجواب عن هذا الفرق : أن " الجامع " بين السابق واللاحق هو " العدم " ; [ ص: 51 ] هذا عدم بالموت ، وهذا بكونه لم يوجد بعد ، فبهذا الجامع ألزمناكم اللاحق على اعتباركم السابق .

                وأما الفارق الذي ذكرتموه بينهما ، وهو ثبوت قول السابق دون اللاحق ، فلا يصح ، لأنه " لا قول لميت " بل يبطل قوله بموته ، لجواز أنه لو كان حيا ، لرجع عنه بتغير اجتهاده ، وإن سلمنا أن للميت قولا ، لكن ذلك لا يقتضي امتناع انعقاد الإجماع بدونه ، وحينئذ يستوي السابق واللاحق ، فيقاس عليه .

                قوله : " وعموم الأمة مخصوص بعدم اعتبار اللاحق ، فالماضي بالقياس عليه " هو جواب عن سؤال مقدر ، وهو أن يقال : لو انعقد الإجماع بدون الصحابة مع تناول الأمة والمؤمنين لهم ، وإمكان النظر في أقوالهم التي ماتوا عنها ، لكان ذلك تخصيصا لعموم الدليل السمعي بغير دليل .

                فأجبت عنه بأن عموم الدليل السمعي وهو الأمة ونحوه مخصوص بعدم اعتبار اللاحق ، فإنا لم نعتبره إجماعا فليخص السابق منه بالقياس على اللاحق ، بجامع العدم .

                وقد أجبنا عن ثبوت أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ، وإمكان النظر فيها ، بأنه لا قول لميت ، أو بأن قول الميت لا يقتضي امتناع الإجماع بدونه .

                قوله : " والغائب " إلى آخره . هو جواب عن قياسهم السابق على الغائب في اعتبارهما في الإجماع ، بجامع تناول الأمة لهما ، وذلك بالفرق بينهما .

                وتقريره : أن الغائب يمكن مراجعته ، واستعلام رأيه " في الواقعة [ ص: 52 ] بالمراسلة ، ويمكن انتظار أوبته ، فيؤخر الإجماع إلى حين إيابه ، فلذلك اعتبر قوله " بخلاف الميت " فإنه لا يمكن مراجعته ، ولا ترجى أوبته ، فلا يعتبر قوله ، ويكون إلحاقه باللاحق الذي لم يولد بعد ، وبالصبي والمجنون إذ لا يعتبر قولهما أولى من إلحاقه بالغائب ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية