الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 346 ] ثم قال النظام : العلة المنصوصة توجب الإلحاق لا قياسا بل لفظا وعموما ، إذ لا فرق بين : حرمت الخمر لشدتها ، وبين : حرمت كل مشتد ، لغة .

                ورد بأنه لا يفيد إلا تحريمها خاصة ، فلولا القياس لاقتصرنا عليه ، كأعتقت غانما لسواده ، وفائدته زوال التحريم عند زوال الشدة ، والله أعلم .

                وفساد القياس بأن لا يكون الحكم معللا ، وبإخطاء علته عند الله تعالى ، وبزيادة أوصاف العلة ونقصها ، وبتوهم وجودها في الفرع وليست فيه .

                التالي السابق


                قوله : " ثم قال النظام " إلى آخره . يعني أن النظام زعم أن " العلة المنصوصة " أي : الثابتة بالنص " توجب " إلحاق الفرع بالأصل ، لا من جهة القياس ، بل من جهة اللفظ والعموم المعنوي ، أي : الإلحاق مستفاد من عموم اللفظ ، لا من القياس ، " إذ لا فرق " في اللغة " بين " قول القائل : " حرمت الخمر لشدتها ، وبين " قوله : " حرمت كل مشتد " فهذا معنى العموم المعنوي .

                قوله : " ورد " أي : ورد على النظام قوله بأنا لا نسلم استواء الصيغتين المذكورتين بل قوله : حرمت كل مشتد يفيد العموم لعليته ، وقوله : حرمت الخمر لشدتها ، لا يفيد إلا تحريم الخمر خاصة ، فلولا الإلحاق القياسي ، لوجب الاقتصار على تحريمها كما في قوله : " أعتقت غانما لسواده " يختص [ ص: 347 ] العتق بغانم ، والنص على علة الإعتاق لا يوجب عموما لفظيا كذلك في مسألتنا .

                قوله : " وفائدته زوال التحريم عند زوال الشدة " . جواب سؤال مقدر ، تقديره : أن النص على العلة في قوله : حرمت الخمر لشدتها ، ونحوه لو لم يفد العموم اللفظي ، لم يكن له فائدة .

                والجواب : لا نسلم ، بل له فائدتان :

                إحداهما : زوال الحكم عند زوال العلة ، كزوال التحريم عند زوال الشدة ، إذ لله تعالى أن ينصب شدة الخمر خاصة علة للتحريم ، دون سائر المسكرات تعبدا ، ولخاصة يعلمها فيها ، ويكون فائدة النص على العلة ما ذكرنا .

                الثانية : نحو ما سبق في فائدة العلة القاصرة من سرعة انقياد المكلفين إلى الامتثال لظهور المعنى المناسب ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .



                قوله : " وفساد القياس " إلى آخره لما بين شروط أركان القياس ومصححاته ، شرع في بيان ما يفسده ، وذلك من وجوه :

                أحدها : " أن لا يكون الحكم معللا " في نفس الأمر ، فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل ، كمن زعم أن علة انتقاض الوضوء بلحم الجزور هو أنه لشدة حرارته ودسمه مرخ للجوف والأمعاء ومخرج الحدث ، فصار ذلك مظنة لخروجه ، فأقيم مقام حقيقته كالنوم ، ثم ألحق به كل طعام مرخ للجوف ، والصحيح المشهور أن ذلك تعبد .

                وحكي عن أبي بكر من أصحابنا أنه قال : إذا نقض لحم الجزور الوضوء [ ص: 348 ] مع إباحته ، فاللحوم المحرمة كلحم الخنزير والكلب أولى أن تكون ناقضة ، فجعل استفادة الحكم في اللحوم المحرمة من باب مفهوم الموافقة وهو فاسد أيضا ، لأن شرط مفهوم الموافقة فهم العلة في الأصل ، كإكرام الوالدين بالنهي عن التأفيف ، ولذلك جعله بعض الأصوليين قياسا ، والحكم في لحم الجزور لا يظهر له علة ، وإنما هو تعبد .

                الثاني : أن يخطئ القائس علة الحكم " عند الله تعالى " في الأصل ، مثل أن يعتقد أن علة الربا في البر الطعم ، فيلحق به الخضراوات وسائر المطعومات ، وتكون علته في نفس الأمر الكيل أو الاقتيات أو بالعكس ، أو يظن أن علة ولاية الإجبار في البكر الصغيرة البكارة ، فيلحق بها البكر البالغة ، أو الصغر ، فيلحق بها الصغيرة الثيب ، ويكون الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك ، أو يظن أن علة قتل المرتد تبديل الدين ، فيلحق به المرأة ، أو إعانة الكفار فلا يلحقها به ، والعلة خلاف ذلك في الأصل .

                الثالث : أن يزيد في أوصاف العلة أو ينقص منها ، مثل أن يعلل الحنبلي بأنه قتل عمد عدوان ، فأوجب القود ، فيقول الحنفي : نقصت من أوصاف العلة وصفا ، وهو الآلة الصالحة السارية في البدن ، يعني المحدد ، فلا يصح إلحاق المثقل به ، أو يعلل الحنفي بذلك ، فيقول الخصم : زدت في أوصاف العلة وصفا ليس منها ، وهو صلاحية الآلة ، وإنما العلة هي القتل العمد العدوان فقط ، فيلحق به المثقل .

                وكذا لو قال الحنفي في كفارة رمضان : إفساد للصوم ، فأوجب الكفارة ، [ ص: 349 ] فقال الحنبلي : نقصت وصفا خاصا من العلة ، وإنما هي إفساد للصوم الواجب بالجماع ، فيخرج الأكل والشرب عن كونه موجبا لها .

                الرابع : أن يتوهم وجود العلة " في الفرع وليست فيه " مثل أن يظن أن الخيار ونحوه مكيل ، فيلحقه بالبر في تحريم الربا ، أو بالعكس ، مثل أن يظن أن الأرز موزون ، فيلحقه بالخضراوات في عدم تحريم الربا بجامع أنه ليس بمكيل .

                وذكر الغزالي وجها آخر ، وهو أن يستدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل ، فلا يصح ، فلا يحل له القياس وإن أصاب ، كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس ، أو أصاب القبلة عند اشتباهها بدون اجتهاد .

                قلت : هذا مما يمنع جواز القياس ، وقد يفضي إلى إفساده بتقدير الخطأ في دليل تصحيح العلة ، ولا يلزم منه فساد القياس ، لجواز أن يصيب ، فيصح القياس ، وربما اتجه جواز القياس حينئذ بناء على الخلاف فيمن أصاب القبلة بغير اجتهاد .

                قال : وزاد آخرون احتمالا آخر ، وهو الخطأ في أصل القياس في الشرع [ لأن صحة القياس ] ليست مظنونة حتى يتطرق إليها هذا الاحتمال ، بل هي مقطوع بها كالتوحيد والنبوة .

                قال : وهذه المثارات للخطأ في القياس إنما تستقيم على رأي من يرى أن المصيب واحد ، أما من قال : كل مجتهد مصيب ، فلا غلط في القياس على رأيه ، لأن العلة عند كل مجتهد ما غلب على ظنه ، فلا يتصور فيها الخطأ ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




                الخدمات العلمية