الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 366 ] الثاني : ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء ، نحو : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي : لتقواه وتوكله لتعقب الجزاء الشرط .

                الثالث : ذكر الحكم جوابا لسؤال يفيد أن السؤال أو مضمونه علته ، كقوله : " أعتق رقبة " في جواب سؤال الأعرابي ، إذ هو في معنى : حيث واقعت ، فأعتق ، وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة .

                الرابع : أن يذكر مع الحكم ما لو لم يعلل به ، للغى ، فيعلل به صيانة لكلام الشارع عن اللغو ، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن بيع الرطب بالتمر : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذن فهو استفهام تقريري لا استعلامي لظهوره ، وكعدوله في الجواب إلى نظير محل السؤال نحو :

                أرأيت لو تمضمضت ، أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته .

                التالي السابق


                و " الثاني " : أي : النوع الثاني من أنواع الإيماء " ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء " أي : بصيغة الشرط والجواب ، " نحو " قوله - عز وجل - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ الطلاق : 2 ] ، أي : لأجل تقواه ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، أي : لأجل " توكله ، لتعقب الجزاء الشرط " أي : لأن الجزاء يكون عقيب الشرط في اللغة . وقد ثبت بما سبق أن السبب ما ثبت الحكم عقيبه ، فإذن الشرط في مثل هذه الصيغ سبب الجزاء ، فيكون الشرط اللغوي سببا وعلة . وقد سبق أن الشروط اللغوية أسباب .

                ومن أمثلة هذا النوع قوله - عز وجل - : من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ الأحزاب : 30 ] ، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب : 31 ] ، وقوله عليه [ ص: 367 ] الصلاة والسلام : من تبع جنازة ، فله من الأجر قيراط ، و من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع ، نقص من أجره كل يوم قيراطان ، و من قتل قتيلا ، فله سلبه ، و من أحيا أرضا ميتة ، فهي له وقد سبق وأمثلته كثيرة .

                فائدة : اعلم أن في باب الشرط والجزاء لا يكون ما بعد الفاء إلا حكما وما قبلها سبب ، لأن جواب الشرط متأخر عن الشرط في وضع اللغة تحقيقا ، نحو : إن كنت مؤمنا ، فاتق الله ، أو تقديرا ، نحو : اتق الله إن كنت مؤمنا ، [ ص: 368 ] والسبب في ذلك أن الشرط لازم ، والمشروط ملزوم ، والملزوم إنما يكون بعد اللازم ، وثبوته فرع على ثبوته ، واعتبر ذلك بالمحسوس ، كالجدار والسقف ، فإن السقف إنما يوجد بعد وجود الجدار ، والإنسان إنما يعقل بعد تعقل الحيوان اللازم له .

                أما ما سبق ، فإن ما بعد الفاء قد يكون حكما نحو : قل هو أذى فاعتزلوا [ البقرة : 222 ] ، وقد يكون علة ، نحو : لا تقربوه طيبا ، فإنه يبعث ملبيا ، فإن بعثه ملبيا هو علة تجنيبه الطيب . وهذا عند التحقيق يرجع إلى باب الشرط والجزاء ، لأن الأمر والنهي قد يتضمنان الشرط ، فيجزم جوابهما ، نحو قوله - عز وجل - : فهب لي من لدنك وليا يرثني [ مريم : 5 - 6 ] ، أي : هب لي ، فإنك إن تهب لي وليا يرثني . وقولك : لا تقرب الشر ، تنج ، أي : لا تقربه ، فإنك إن لا تقربه ، تنج . وتدخل الفاء في جوابهما ، كقوله : لا تقربوه طيبا فإنه يبعث أي : من مات محرما ، فإنه يبعث ملبيا ، فلا تقربوه طيبا . وقوله : زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون أي : من مات شهيدا ، فإنهم يحشرون تشخب أوداجهم ، فزملوهم ، فالظاهر استواء الصيغ جميعها في تأخر الحكم وترتبه على الوصف ، لأن الحكم إما مسبب أو مشروط ، وهو مسبب أيضا ، وكلاهما متأخر . نعم بعض ذلك متأخر تحقيقا ، وبعضه تقديرا كما ذكرنا .

                " الثالث " : أي : النوع الثالث من أنواع الإيماء : " ذكر الحكم جوابا لسؤال [ ص: 369 ] يفيد أن السؤال " المذكور " أو مضمونه " هو علة الجواب المذكور ، كقوله - عليه السلام - في جواب قول الأعرابي : واقعت أهلي في نهار رمضان : " أعتق رقبة " لأن ذلك " في معنى " قوله : " حيث واقعت " أهلك ، " فأعتق رقبة " ؛ لأن السؤال في تقدير الإعادة في الجواب كما لو قيل : جاء العدو فقال : اركبوا ، أو : فلان واقف يسأل ، فقال : أعطوه ، إذ التقدير : حيث جاء العدو ، فاركبوا ، وحيث جاء فلان يسأل ، فأعطوه .

                قوله : " وإلا لتأخر البيان عن وقت الحاجة " أي : لو لم يعلل الجواب بالسؤال ، لكان الجواب غير مرتبط بالسؤال ، ولو كان غير مرتبط به ، لخلا السؤال عن جواب . وحينئذ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأن السائل إنما يسأل ليتبين له الحكم ، والتقدير أنه لم يجب عن سؤاله ، وأيضا يلزم أن أمره بعتق رقبة ثبت تعبدا ، وهو خلاف الأصل ، أو أنه حكم ثبت بغير سبب ، وهو محال ، ولا سبب يحال عليه الحكم إلا سؤال السائل ، فوجب أن يضاف إليه ، ويعلل به .

                " الرابع " : أي : النوع الرابع من أنواع الإيماء إلى العلة " أن يذكر " الشارع " مع الحكم " شيئا " لو لم يعلل " الحكم " به " لكان ذكره لاغيا ، فيجب تعليل الحكم بذلك الشيء المذكور معه " صيانة لكلام الشارع عن اللغو " إذ الدليل القاطع دل على عصمته من ذلك ، وهو ضربان :

                أحدهما : أن يسأل في الواقعة عن أمر ظاهر لا يخفى عن عاقل ، ثم يذكر [ ص: 370 ] الحكم عقيبه ، فيدل على أن ذلك الأمر المسئول عنه علة الحكم المذكور .

                مثاله : لما سئل عن بيع الرطب بالتمر ، قال : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن فهذا " استفهام تقريري " أي : على جهة التقرير ، لكونه ينقص إذا يبس ، كقوله - سبحانه وتعالى - : وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] ، ليقرر عنده أنها عصا لئلا يتردد عند انقلابها حية ، أو على جهة التأنيس ، وليس هذا من باب الاستعلام ، إذ من المعلوم لكل عاقل أن الرطب ينقص إذا يبس لزوال الرطوبة الموجبة لزيادته وثقله .

                قال الغزالي : في هذا الحديث تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه :

                أحدها : ما سبق من أنه لا معنى لذكر هذا الوصف إلا التعليل به .

                الثاني : قوله : " إذن " فإنه للتعليل .

                قلت : وبيانه أن تقدير الكلام : إذ الأمر كذلك فلا تبيعوه ، أو فلا تفعلوا إذن .

                الثالث : الفاء في قوله : فلا ، إذ هي للتعقيب والسبب كما سبق ، كأنه جعل النقص الموجب للتفاضل سبب المنع .

                قوله : " وكعدوله في الجواب إلى نظير محل السؤال " كقوله لعمر - رضي الله عنه - لما قال له : إني قبلت وأنا صائم ، فقال له : أرأيت لو تمضمضت . ، وكقوله للخثعمية لما سألته عن الحج عن أبيها : أرأيت لو [ ص: 371 ] كان على أبيك دين فقضيتيه . ، فإن ذلك يدل على التعليل بالمعنى المشترك بين الصورتين المسئول عنها والمعدول إليها بطريق القياس ، إذ لو لم يكن كذلك لخلا السؤال عن جواب ، ولزم ما سبق ، فكأنه قال لعمر : إن القبلة لا تضر ولا تفسد صومك ، لأنها مقدمة شهوة الفرج ، كما أن المضمضة مقدمة شهوة البطن ، وكما أن هذه لا تبطل الصوم كذلك تلك . وكأنه قال للمرأة : الحج دين الله - عز وجل - ، فيجزئ قضاؤه عن الوالد ، كدين الآدمي ، والجامع كونهما دينا .

                وذكر النيلي في " شرح جدل الشريف " لهذا النوع ضربا ثالثا ، ومثله بقوله - عليه السلام - لابن مسعود - رضي الله عنه - ، هل معك ماء أتوضأ به ؟ قال : إنما معي ماء نبذت فيه تمرات لتجذب ملوحته ، فقال - عليه السلام - : ثمرة طيبة وماء طهور ، فقوله : طهور ، لا فائدة لذكره إلا أنه أراد جواز الوضوء به ، وإلا فطهارته معلومة بدون ذلك ، وأورد عليه أسئلة وأجوبة .

                قلت : وهو داخل في الضرب الأول مما ذكرنا ، أو هو من قبيله وما يشبهه .




                الخدمات العلمية