الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 706 ] وأما الثالث : فيرجح المجرى على عمومه على المخصوص ; والمتلقى بالقبول على ما دخله النكير ، وعلى قياسه ما قل نكيره على ما كثر، وما عضده عموم كتاب ، أو سنة ، أو قياس شرعي ، أو معنى عقلي على غيره . فإن عضد أحدهما قرآن ، والآخر سنة ، قدم الأول في رواية ، لتنوع الدلالة ، والثاني في أخرى ، إذ السنة مقدمة بطريق البيان ، وما ورد ابتداء على ذي السبب ، لاحتمال اختصاصه بسببه . وما عمل به الخلفاء الراشدون على غيره في رواية ، لورود الأمر باتباعهم ، وما لم ينقل عن راويه خلافه على غيره .

                ولا يرجح بقول أهل المدينة ، كقول بعض الشافعية ، ولا بقول أهل الكوفة ، كقول بعض الحنفية ، إذ لا تأثير للأماكن في زيادة الظنون .

                وما عضده من احتمالات الخبر بتفسير الراوي ، أو غيره من وجوه الترجيحات على غيره من الاحتمالات .

                التالي السابق


                قوله : " وأما الثالث " . يعني الترجيح من جهة القرينة ، " فيرجح المجرى على عمومه على المخصوص " .

                أي : إذا تعارض عامان أحدهما باق على عمومه ، والآخر قد خص بصورة فأكثر ; رجح الباقي على عمومه على المخصوص ، لأنه مختلف في بقائه حقيقة أو مجازا ، وحجة ، أو غير حجة ، والباقي على عمومه لا خلاف في بقائه حقيقة وحجة ، فكان راجحا .

                قلت : وكذلك يقدم ما كان أقل تخصيصا على الأكثر تخصيصا ، مثل [ ص: 707 ] أن يخص أحدهما بصورة ، والآخر بصورتين ، فالأول أرجح ، لأنه أقرب إلى الأصل ، وهو البقاء على العموم ومخالفة الأصل فيه أقل .

                قوله : " والمتلقى " . أي : ويرجح المتلقى " بالقبول على ما دخله النكير " ، أي : إذا كان أحد النصين قد تلقاه العلماء بالقبول ، ولم يلحقه إنكار من أحد منهم فهو مقدم على ما لحقه الإنكار من بعضهم ، لأن لحوق الإنكار شبهة ، فالخالي منها يكون راجحا ، كما في المسند مع المرسل " وعلى قياسه " أي : وعلى قياس قولنا : يقدم المتلقى بالقبول على ما دخله النكير أن يقدم " ما قل نكيره على ما كثر " نكيره ، مثل أن يتعارض النصان ; وكلاهما قد أنكره بعض العلماء ، فما قل منكره منهما مقدم ، مثل أن ينكر أحدهما اثنان والآخر ثلاثة ، فيرجح الأول ، كالأقل تخصيصا مع الأكثر .

                قوله : " وما عضده عموم كتاب ، أو سنة ، أو قياس شرعي ، أو معنى عقلي على غيره " .

                وحاصل هذا أن أحد الدليلين يترجح باعتضاده بدليل آخر مما يفيده قوة لاجتماع دليلين في مقابلة دليل واحد . فإذا تعارض نصان ; ومع أحدهما عموم كتاب ، أو عموم سنة ، أو عضده قياس شرعي أو معنى عقلي يحصل مصلحة ما ; كان مقدما على الآخر لتجرده عن مرجح .

                قوله : " فإن عضد أحدهما - أي : أحد النصين - قرآن والآخر سنة " ، أي : تعارض حديثان وعضد أحدهما آية ، وعضد الآخر حديث ، ففيه روايتان :

                إحداهما : يقدم ما عضده القرآن لتنوع الدلالة ، أي : لأن الدلالة صارت من نوعين : الكتاب والسنة ، بخلاف ما في الطرف الآخر ، فإن دلالته من نوع واحد وهو الحديث .

                [ ص: 708 ] والرواية الثانية : يقدم ما عضده الحديث ، لأن " السنة مقدمة " على الكتاب " بطريق البيان " ، أي : من جهة كونها مبينة له بحق الأصل والغالب ، لقوله - عز وجل - : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

                واعلم أن التعارض إما أن يقع بين آيتين ، أو خبرين ، أو قياسين ، أو آية وخبر ، أو آية وقياس ، أو خبر وقياس . وعلى التقديرات الستة ، فالمرجح من الطرفين إما آيتان ، أو خبران ، أو قياسان ، أو آية وخبر ، أو آية وقياس ، أو خبر وقياس . فهذه ستة وثلاثون تعارضا مضروب ستة في ستة ، فحيث اتحد نوع العاضد والمعضود من الطرفين كآيتين عضدتهما آيتان ، أو خبرين عضدهما خبران ، أو قياسين عضدهما قياسان ; رجح أحد الطرفين ببعض وجوه الترجيح مما سبق أو غيره . وحيث اختلف نوعها ، كآية وخبر مع خبرين أو آيتين ; فهل يقدم ما تعدد نوع دلالته أو ما عضدته السنة ؟ فيه ما ذكر . والأضبط من هذا أن يرجح ما تخيل فيه زيادة قوة كائنا من ذلك ما كان ، وقد تتخيل زيادة القوة مع اتحاد النوع واختلافه .

                قوله : " وما ورد " . أي : ويرجح ما ورد " ابتداء " على غير سبب على ما ورد على سبب " لاحتمال اختصاصه " ، أي : اختصاص ذي السبب " بسببه " . وهذا الاحتمال معدوم فيما ورد ابتداء ، فيكون راجحا ، ولأن الوارد على سبب مختلف فيه بخلاف غيره ، والمختلف فيه مرجوح بالنسبة إلى غيره ، كالمرسل مع المسند ، والمخصوص على غير المخصوص .

                قوله : " وما عمل به الخلفاء الراشدون على غيره في رواية " ، أي : إذا تعارض نصان ، وقد عمل بأحدهما الخلفاء الراشدون ، فهل يكون عملهم به [ ص: 709 ] مرجحا له على النص الآخر ؟ فيه قولان :

                أحدهما : نعم ، " لورود الأمر باتباعهم " حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ولأن الظاهر أنهم لم يتركوا النص الآخر إلا لحجة .

                والقول الثاني : لا يكون ما عملوا به راجحا على غيره ، لجواز أنه لم يبلغهم . وحينئذ لا يدل تركهم له على مرجوحيته والأول أظهر .

                فائدة : إذا وجدنا فتيا صحابي مشهور بالعلم والفقه على خلاف نص ، لا يجوز لنا أن نجزم بخطئه الخطأ الاجتهادي ، لاحتمال ظهور الصحابي على نص أو دليل راجح أفتى به ، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - أقرب إلى معرفة النصوص النبوية منا لمعاصرتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكم من نص نبوي كان عند الصحابة - رضي الله عنهم - ، ثم دثر ، فلم يبلغنا ، وذلك كفتيا علي ، وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المتوفى عنها تعتد بأطول الأجلين ، ونحوها من المسائل التي نقم بعض الناس على علي فيها لمخالفته للنص ، وخطئه بذلك .

                [ ص: 710 ] قوله : " وما لم ينقل عن راويه خلافه على غيره " ، أي : إذا تعارض خبران ، أحدهما قد نقل عن راويه خلافه قولا أو فعلا ، والآخر لم ينقل عن راويه خلافه قولا أو فعلا ، قدم الثاني ، لأن مخالفة الراوي ما رواه يؤثر شبهة ، فالخالي منه يكون راجحا ، كما سبق فيما لحقه النكير بالنسبة إلى غيره .

                قوله : " ولا يرجح بقول أهل المدينة " . أي : إذا تعارض نصان ، وقد قال أهل المدينة بأحدهما ، فلا يكون ذلك ترجيحا له ، خلافا لبعض الشافعية في قولهم : يرجح به . وكذلك لا يرجح بقول أهل الكوفة ، خلافا لبعض الحنفية :

                حجة الأول : أن الأماكن لا تأثير لها في زيادة الظنون ، فلا فرق بين قول أهل المدينة والكوفة وغيرهما في عدم الترجيح به .

                حجة الثاني : أن إطباق الجم الغفير على العمل على وفق أحد الخبرين يفيده تقوية وزيادة ظن ، فيرجح به ، كموافقة خبر آخر ، ولأن اتفاق أهل البلد المذكورين قد اختلف في كونه إجماعا ، فإن كان إجماعا ، فهو مرجح لا محالة ، وإن لم يكن إجماعا ، فأدنى أحواله أن يكون مرجحا ، كالظاهر والقياس وخبر الواحد .

                قلت : هذا هو الظاهر .

                وقولهم : " لا تأثير للأماكن في زيادة الظنون " .

                قلنا : نحن لا نرجح بالأماكن ، بل بأقوال الجم الغفير من علماء أهلها ، وهو مفيد لزيادة الظن بلا شك .

                [ ص: 711 ] قوله : " وما عضده من احتمالات الخبر بتفسير الراوي ، أو غيره من وجوه الترجيحات على غيره من الاحتمالات " .

                أي : إذا كان الخبر يحتمل وجوها ، وتتجه له محامل ، ففسره الراوي على بعضها ; كان ما فسره الراوي عليه مقدما على باقيها . وكذلك إذا ترجح بعض الاحتمالات المذكورة بوجه من وجوه الترجيح ، كان مقدما على غيره مما لم يترجح بذلك :

                أما الأول : فلأن الصحابي لسماعه الخبر من المخبر ، ومشاهدته قرائن المقال والحال ، أعلم بمعنى ما روى ، فيكون ما فسر به الخبر متعينا ، كتفسير ابن عمر التفرق في حديث : المتبايعان بالخيار على التفرق بالأبدان بفعله ، وتفسيره قوله - عليه السلام - : فإن غم عليكم فاقدروا له بالتضييق في العدة احتياطا ، حيث كان يصبح يوم الثلاثين إذا غم الهلال صائما .

                [ ص: 712 ] وأما الثاني : فلأن بعض احتمالات الخبر إذا عضد بوجه من وجوه الترجيح ، كان كاعتضاده بخبر آخر بجامع غلبة الظن بأنه المراد في الصورتين .




                الخدمات العلمية