الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 337 ] السبب السابع : المخالفة في الحفظ . فإذا أمره بحفظها على وجه مخصوص ، فعدل إلى وجه آخر وتلفت ، فإن كان التلف بسبب الجهة المعدول إليها ، ضمن ، وكانت المخالفة تقصيرا . وإن تلفت بسبب آخر ، فلا ضمان .

                                                                                                                                                                        هذه جملة السبب ، ولتفصيلها صور .

                                                                                                                                                                        إحداها : أودعه مالا في صندوق وقال : لا ترقد ، فرقد عليه ، نظر ، إن خالف بالرقود ، بأن انكسر رأس الصندوق بثقله ، أو تلف ما فيه ، ضمن ، وإلا فإن كان في بيت محرز ، أو في صحراء فأخذه لص ، فلا ضمان على الصحيح ؛ لأنه زاده خيرا . وإن كان في صحراء وأخذه لص من جانب الصندوق ، ضمن على الأصح . وإنما يظهر هذا ، إذا سرق من جانب لو لم يرقد عليه لرقد هناك ، وقد تعرض بعضهم لهذا القيد .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا تقفل عليه ، فأقفل ، أو لا تقفل إلا قفلا ، فأقفل قفلين ، أو لا تغلق باب البيت ، فأغلقه ، فلا ضمان على الصحيح . ولو أمره بدفنها في بيته وقال : لا تبن ، فبنى ، فهو كما لو قال : لا ترقد عليه ، فرقد ، ثم هو عند الاسترداد منقوص غير مغروم على المالك ، كما لو نقل الوديعة عند الضرورة لا يرجع بالأجرة على المالك ؛ لأنه متطوع ، نص عليه في ( ( عيون المسائل ) ) .

                                                                                                                                                                        [ الصورة ] الثانية : أودعه دراهم أو غيرها وقال : اربطها في كمك ، فأمسكها ، نقل المزني : أنه لا ضمان . ونقل الربيع : أنه يضمن . وللأصحاب ثلاثة طرق :

                                                                                                                                                                        أحدها : إطلاق قولين . والثاني : أنه إن لم يربطها في الكم واقتصر على الإمساك ، ضمن ، وإن أمسك باليد بعد الربط ، لم يضمن ، والثالث - وهو أصحها : إن تلفت بأخذ غاصب ، فلا ضمان ؛ لأن اليد أحرز بالنسبة إليه . وإن سقطت بنوم أو نسيان ، ضمن ؛ لأنها [ ص: 338 ] لو كانت مربوطة لم تضع بهذا السبب ، فالتلف حصل بالمخالفة . ولفظ النص في ( ( عيون المسائل ) ) مصرح بهذا التفصيل . ولو لم يربطها في الكم وجعلها في جيبه ، لم يضمن ؛ لأنه أحرز ، إلا إذا كان واسعا غير مزرور . وفي وجه ضعيف : يضمن ، وبالعكس يضمن قطعا . أما إذا امتثل فربطها في كمه ، فلا يكلف معه الإمساك باليد ، ثم ينظر إن جعل الخيط الرابط خارج الكم فأخذها الطرار ، ضمن ؛ لأن فيه إظهار الوديعة وتنبيه الطرار ؛ لأنه أسهل عليه في قطعه وحله . وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقدة ، لم يضمن إذا كان قد احتاط في الربط ؛ لأنها إذا انحلت بقيت الدراهم في الكم .

                                                                                                                                                                        وإن جعل الخيط الرابط داخل الكم ، انعكس الحكم . فإن أخذها الطرار ، لم يضمن . وإن ضاعت بالاسترسال ، ضمن ؛ لأن العقدة إذا انحلت تناثرت الدراهم ، هكذا قاله الأصحاب ، وهو مشكل ؛ لأن المأمور به مطلق الربط . فإذا أتى به ، وجب أن لا ينظر إلى جهات التلف ، بخلاف ما إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فحصل به التلف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو أودعه دراهم في سوق أو طريق ، ولم يقل : اربطها في كمك ، ولا أمسكها في يدك ، فربطها في الكم وأمسكها باليد ، فقد بالغ في الحفظ . وكذا لو جعلها في جيبه وهو ضيق ، أو [ واسع ] مزرور . فإن كان واسعا غير مزرور ، ضمن ، لسهولة تناولها باليد . ولو أمسكها بيده ولم يربطها ، لم يضمن إن تلفت بأخذ غاصب ، ويضمن إن تلفت بغفلة أو نوم . فلو ربطها ولم يمسكها بيده ، فقياس ما سبق أن ينظر إلى كيفية الربط وجهة التلف . ولو وضعها في الكم ولم يربطها فسقطت ، فإن كانت خفيفة لا يشعر بها ، [ ص: 339 ] ضمن ؛ لتفريطه في الإحراز ، وإن كانت ثقيلة يشعر بها ، لم يضمن ، ذكره في ( ( المهذب ) ) وقياس هذا يلزم طرده فيما سبق من صور الاسترسال كلها . ولو وضعها في كور عمامته ولم يشد ، ضمن .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أودعه في سوق وقال : احفظها في بيتك ، فينبغي أن يمضي إلى بيته ويحفظها فيه . فإن أخر من غير عذر ، ضمن . وإن أودعه في البيت وقال : احفظها في البيت فربطها في الكم وخرج بها ، صارت مضمونة عليه . وكذا لو لم يخرج بها وربطها في الكم مع إمكان إحرازها في الصندوق ونحوه ، وإن كان ذلك لقفل تعذر فتحه ونحوه . لم يضمن .

                                                                                                                                                                        قال في المعتمد : وإن شدها في عضده وخرج بها ، فإن كان الشد مما يلي الأضلاع ، لم يضمن ؛ لأنه أحرز من البيت ، وإن كان من الجانب الآخر ، ضمن ؛ لأن البيت أحرز منه . وفي تقييدهم الصورة بما إذا قال : احفظها في البيت ، إشعار بأنه لو أودعه في البيت ولم يقل شيئا ، يجوز له أن يخرج بها مربوطة ، ويشبه أن يكون الرجوع إلى العادة .

                                                                                                                                                                        الصورة الثالثة : إذا عين للوديعة مكانا فقال : احفظها في هذا البيت أو في هذه الدار ، فإما أن يقتصر عليه ، وإما أن ينهاه مع ذلك عن النقل ، فإن اقتصر عليه فنقلها إلى ما دونه في الحرز ، ضمن على الصحيح ، وإن كان المنقول إليه حرزا لمثلها . وإن نقلها إلى بيت مثل الأول ، لم يضمن ، إلا أن يتلف بسبب النقل ، كانهدام البيت المنقول إليه ، فيضمن ؛ لأن التلف حصل بالمخالفة . والسرقة من المنقول إليه كالانهدام ، قاله البغوي والمتولي . وفي كلام الغزالي ما يقتضي إلحاق السرقة والغصب بالموت ، وكذا صرح به بعضهم .

                                                                                                                                                                        وإن نهاه فقال : احفظ في هذا البيت ولا تنقلها ، فإن نقلها من غير ضرورة ، ضمن ؛ لصريح المخالفة من غير حاجة ، سواء كان [ ص: 340 ] المنقول إليه أحرز أو لم يكن . قال الإصطخري : إن كان أحرز من الأول أو مثله ، لم يضمن ، والصحيح الأول . وإن نقل لضرورة غارة ، أو غرق ، أو حريق ، أو غلبة لصوص ، لم يضمن ، وإن كان المنقول إليه حرزا لمثلها . ولا بأس بكونه دون الأول إذا لم يجد أحرز منه . ولو ترك النقل والحالة هذه ، ضمن على الأصح ؛ لأن الظاهر أنه أراد بالنهي تحصيل الاحتياط .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا تنقلها وإن حدثت ضرورة ، فإن لم ينقلها ، لم يضمن على الصحيح ، كما لو قال : أتلف مالي ، فأتلفه ، لا يضمن ، وإن نقل لم يضمن على الأصح ؛ لأنه قصد الصيانة .

                                                                                                                                                                        وحيث قلنا : لا يجوز النقل إلا لضرورة ، فاختلفا في وقوعها ، فإن عرف هناك ما يدعيه المودع ، صدق بيمينه ، وإلا طولب بالبينة ، فإن لم تكن بينة ، صدق المالك بيمينه . وحكى أبو الفرج الزاز وجها ، أن ظاهر الحال يغنيه عن اليمين ، ثم ذكر الأئمة أن جميع هذا فيما إذا كان البيت أو الدار المعينة للمودع . أما إذا كان للمالك ، فليس للمودع إخراجها من ملكه بحال ، إلا أن تقع ضرورة .

                                                                                                                                                                        الصورة الرابعة : إذا نقلها من ظرف إلى ظرف ، كخريطة إلى خريطة ، وصندوق إلى صندوق ، فالمتلخص من كلام الأصحاب على اضطرابه ، أنه إن لم يجر فتح قفل ولا فض ختم ولا خلط ، ولم يعين المالك ظرفا ، فلا ضمان لمجرد النقل ، سواء كانت الصناديق للمودع أو للمالك . وإذا كانت للمالك ، فحصولها في يد المودع قد يكون بجهة كونها وديعة أيضا . إما فارغة ، وإما مشغولة بالوديعة ، وقد تكون بجهة العارية . وإن جرى شيء من ذلك ، فالفض والفتح والخلط سبق أنها مضمنة . وإن عين ظرفا ، نظر ، إن كانت الظروف للمالك ، فوجهان . أحدهما : يضمن . وأصحهما : لا لأنهما وديعتان ، وليس فيه إلا حفظ أحدهما في حرز والأخرى في آخر . فعلى هذا إن نقل إلى ما دون الأول ، ضمن ، وإلا ، فلا . وإن كانت الظروف للمودع ، فهي كالبيوت بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 341 ] الصورة الخامسة : قال : احفظ وديعتي في هذا البيت ، ولا تدخل إليها أحدا ، أو لا تستعن على حفظها بالحارسين ، فخالف ، فإن حصل التلف بسبب المخالفة ، بأن سرقها الذين أدخلهم ، أو الحارسون ، ضمن . وإن سرق غيرهم أو وقع حريق ، فلا ضمان .

                                                                                                                                                                        [ الصورة ] السادسة : أودعه خاتما وقال : اجعله في خنصرك ، فجعله في بنصره ، فهو أحرز ، لكن لو انكسر لغلظها ، أو جعله في الأنملة العليا ، ضمن . وإن قال : اجعله في البنصر ، فجعله في الخنصر ، فإن كان لا ينتهي إلى أصل البنصر ، فالذي فعله أحرز ، ولا ضمان . وإن كان ينتهي إليه ، ضمن . وإن أودعه الخاتم ولم يقل شيئا ، فإن جعله في غير الخنصر ، لم يضمن ، إلا أن غير الخنصر في حق المرأة كالخنصر . وإن جعله في الخنصر ، ففيه احتمالان عن القاضي حسين وغيره . أحدهما : يضمن ؛ لأنه استعمال . والثاني : إن قصد الحفظ ، لم يضمن . وإن قصد الاستعمال ، ضمن وفي ( ( الرقم ) ) للعبادي : أنه إن جعل فصه إلى ظهر الكف ، ضمن . وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        قلت : المختار أنه يضمن مطلقا ، إلا إذا قصد الحفظ . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ الصورة ] السابعة : أودعه وقال : لا تخبر بها ، فخالف ، فسرقها من أخبره ، أو من أخبره من أخبره ، ضمن . ولو تلفت بسبب آخر ، لم يضمن . وقال العبادي : لو سأله رجل فقال : هل عندك لفلان وديعة ؟ فأخبره ، ضمن ؛ لأن كتمها من حفظها .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية