الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه في ذلك الوقت ) وفاء بما التزمه ، فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه ، ولكن لا يحبسه أول مرة لعله ما درى لماذا يدعي . [ ص: 168 ] ولو غاب المكفول بنفسه أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه ، فإن مضت ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق . قال ( وكذا إذا ارتد والعياذ بالله ولحق بدار الحرب ) وهذا لأنه عاجز في المدة فينظر كالذي أعسر ، ولو سلمه قبل ذلك برئ لأن الأجل حقه فيملك إسقاطه كما في الدين المؤجل .

قال ( وإذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له [ ص: 169 ] أن يخاصمه فيه مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة ) لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به ، وهذا لأنه ما التزم التسليم إلا مرة . قال ( وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ ) لحصول المقصود ، وقيل في زماننا : لا يبرأ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار فكان التقييد مفيدا ( وإن سلمه في برية لم يبرأ ) لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود ، وكذا إذا سلمه في سواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه ، ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ عند أبي حنيفة للقدرة على المخاصمة فيه . وعندهما لا يبرأ لأنه قد تكون شهوده فيما عينه . [ ص: 170 ] ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيه .

التالي السابق


( قوله فإن شرط في الكفالة ) أي بالنفس ( تسليم المكفول به في وقت بعينه ) أو يوم ( لزمه إحضاره فيه وإلا حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق عليه ) وهذا إذا لم يظهر عجزه عن [ ص: 168 ] إحضاره فيه ، فإن ظهر لا يحبسه إذ لا فائدة في حبسه ، كما إذا مات المكفول به فإن الكفالة تبطل ، فإن غاب وعلم مكانه لا يطالب الكفيل للحال ويؤجل إلى مدة يمكنه الإحضار فيها ، فإن لم يحضره ظهرت مماطلة الكفيل فيحبس إلى أن يظهر للقاضي تعذر الإحضار عليه بدلالة الحال أو بشهود بذلك فيخرج من الحبس وينظر إلى وقت القدرة كالإعسار بالدين ، وإذا أخرج لا يحول بينه وبين المكفول له فيلازمه ولا يمنعه من أشغاله ، ولو لم يكن يعلم مكانه سقطت مطالبة الكفيل ; فلو قال الطالب تعرف مكانه وقال الكفيل لا أعرف ; فإن كانت له خرجة معروفة يخرج إليها إلى موضع معلوم للتجارة فالقول للطالب ويؤمر الكفيل بالذهاب إليه ; لأن الظاهر شاهد له ، وإن لم يكن ذلك فالقول للكفيل لأنه متمسك بالأصل وهو الجهل ومنكر لزوم المطالبة .

وقيل : لا يلتفت إلى قول الكفيل ويحبس حتى يظهر عجزه لأن المطالبة كانت متوجهة عليه بالضمان فلا يصدق في دعوى ما يسقطها ، فإن أقام الطالب بينة أنه في موضع كذا يؤمر الكفيل بالذهاب إليه . وفي بعض النسخ قوله ( وكذا إذا ارتد ولحق بدار الحرب ) يعني يمهله الحاكم مدة ذهابه إلى دار الحرب إن كان بيننا وبينهم موادعة ، فإن لم يكن لا يؤاخذ الكفيل للعجز عنه واللحاق ، وإن كان موتا فهو حكمي في ماله ليعطي الأقرب إليه ، أما حقوق العباد فثابتة على حالها ، ولم يفصل في المذهب بين المسافة البعيدة والقريبة . للشافعية فيما إذا كانت مسافة القصر وجهان : أحدهما لا يسقط الطلب كما هو فيما دونها ، والثاني يسقط إلحاقا بالغيبة المنقطعة ( قوله إذا أحضره وسلمه إليه في مكان يقدر المكفول له [ ص: 169 ] على أن يخاصمه مثل أن يكون في مصر ) من الأمصار ( برئ الكفيل من الكفالة ) سواء قبله الطالب أو لا كالمديون إذا جاء بالدين فوضعه بين يدي الطالب ( وهذا لأنه ما التزم التسليم ) بالكفالة ( إلا مرة ) وقد حصلت . ثم الشرط عندهما أن يكون ذلك المصر وهو المصر الذي كفل فيه .

وعن أبي حنيفة ليس ذلك بشرط وهي المسألة الأخيرة من مسائل التسليم ، ووضعها هنا أنسب . وجه قوله أنه يثبت بذلك قدرة المخاصمة في الجملة وهما يقولان المقصود من التكفيل بنفسه تحصيله في وقت يقدر فيه على مخاصمته وهذا لا يكون ظاهرا إلا في مصره ; لأن شهوده ظاهر فيه لا في غيره من الأمصار ، ولا يفيد التكفيل فائدته المقصودة به ، وقولهما أوجه . وفي الفتاوى : القاضي إذا أخذ كفيلا من المدعى عليه بنفسه فإن الكفيل إذا سلمه إلى القاضي أو إلى رسوله بريء ، وإن سلم إلى المدعي لا ، وهذا إذا لم يضف الكفالة إلى المدعي ، فإن أضاف بأن قال أكفل للمدعي فالجواب على العكس ، أما إن عين مجلس القاضي أو المسجد الجامع فالمذهب أنه إذا سلمه في السوق بريء لأن المقصود من الكفالة يحصل بذلك وهو قدرة المخاصمة .

وحين اختلف الزمان رأى المشايخ أنه لا يبرأ بذلك لأن البراءة كانت باعتبار أنه يقدر على إيصاله إلى حضرة القاضي بمعاونة الناس وعبار الطريق الآن لا يقدرون أو لا يفعلون إن قدروا فكان التقييد مفيدا .

وقد روي عن أبي يوسف نصا وقال : لأن الناس لا يعينونه للإحضار . قيل ويجب أن يفتي بهذا . ولو شرط تسليمه عند الأمير فسلمه عند القاضي أو عزل ذلك القاضي وولي غيره فدفعه عند الثاني جاز ، ذكره في الخلاصة ( ولو سلمه في برية أو سواد لا يبرأ ) اتفاقا [ ص: 170 ] ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ لأنه لا يقدر على المحاكمة فيه ) وفي المنتقى : رجل كفل بنفس محبوس ينبغي للقاضي أن يخرجه حتى يدفعه الكفيل إلى المكفول له ثم يعيده إلى السجن ، ومفهوم قوله وقد حبسه غير الطالب يدل عليه .

وفي العيون : لو ضمن بنفس رجل وحبس المطلوب في السجن فأتى به الذي ضمنه إلى مجلس القاضي فدفعه إليه قال محمد : لا يبرأ ; لأنه في السجن ; ولو ضمنه وهو في السجن يبرأ ، ولو خلي عن الحبس ثم حبس ثانيا فدفعه إليه وهو في الحبس ، إن كان الحبس الثاني من أمور التجارة ونحوها صح الدفع ، وإن كان في أمر من أمور السلطان لا يبرأ .

ولو حبس الطالب المطلوب ثم أخذ الطالب الكفيل فقال : ادفعه إلي فدفعه وهو في الحبس قال محمد : برئ بتسليمه إليه وهو في حبسه . ومفهوم هذا القيد في قول المصنف وقد حبسه غير الطالب .

ولو قال المطلوب في السجن دفعت نفسي إليك عن كفالته كان جائزا أيضا وبرئ الكفيل . وفي الواقعات : رجل كفل بنفس رجل وهو محبوس فلم يقدر أن يأتي به الكفيل لا يحبس الكفيل ; لأنه عجز عن إحضاره




الخدمات العلمية