الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية فوجده حرا لم يرجع عليه على كل حال . [ ص: 47 ] وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يرجع فيهما لأن الرجوع بالمعاوضة أو بالكفالة والموجود ليس إلا الإخبار كاذبا فصار كما إذا قال الأجنبي ذلك أو قال العبد ارتهني فإني عبد وهي المسألة الثانية . ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على ما أمره وإقراره أني عبد ، إذ القول له في الحرية فيجعل العبد بالأمر بالشراء ضامنا للثمن له عند تعذر رجوعه على البائع دفعا للغرور والضرر ، ولا تعذر إلا فيما لا يعرف مكانه ، والبيع عقد معاوضة فأمكن أن يجعل الآمر به ضامنا للسلامة كما هو موجبه ، بخلاف الرهن لأنه ليس بمعاوضة بل هو وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى يجوز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه مع حرمة الاستبدال فلا يجعل الأمر به ضمانا للسلامة ، [ ص: 48 ] وبخلاف الأجنبي لأنه لا يعبأ بقوله فلا يتحقق الغرور .

ونظير مسألتنا قول المولى بايعوا عبدي هذا فإني قد أذنت له ثم ظهر الاستحقاق فإنهم يرجعون عليه بقيمته ، ثم في وضع المسألة ضرب إشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله ، لأن الدعوى شرط في حرية العبد عنده ، والتناقض يفسد الدعوى . وقيل إذا كان الوضع في حرية الأصل فالدعوى فيها ليس بشرط عنده لتضمنه تحريم فرج الأم . وقيل هو شرط لكن التناقض غير مانع لخفاء العلوق وإن كان الوضع في الإعتاق فالتناقض لا يمنع لاستبداد المولى به [ ص: 49 ] فصار كالمختلعة تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع والمكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة .

التالي السابق


( ولو ارتهن عبدا مقرا بالرق فظهر حرا ) وقد كان قال ارتهني فإني عبد الراهن ( لم يرجع عليه ) أي على العبد ( على كل حال ) [ ص: 47 ] أي سواء كان الراهن حاضرا أو غائبا يعرف مكانه أو لا يعرف ، وهذا ظاهر الرواية ( عنهم . وعن أبي يوسف أنه لا يرجع فيهما )

أي في البيع والرهن ( لأن الرجوع بالمعاوضة ) وهي المبايعة هنا ( أو بالكفالة ) وليس واحد منهما ثابتا ( بل ) الثابت ( ليس إلا ) مجرد ( الإخبار كاذبا فصار كما لو قال أجنبي ) لشخص ( ذلك ) وكقول العبد ( ارتهني فإني عبد وهي المسألة المذكورة ثانيا . ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على أمره وإقراره )

فكان مغرورا من جهته ، والتغرير في المعاوضات التي تقتضي سلامة العوض تجعل سببا للضمان دفعا للضرر بقدر الإمكان فكان بتغريره ( ضامنا ) لدرك ( الثمن له عند تعذر رجوعه على البائع ) ، ولا تعذر إلا فيما يعرف مكانه ( كالمولى إذا قال ) لأهل السوق ( بايعوا عبدي فإني قد أذنت له ) ففعلوا ( ثم ظهر استحقاق العبد ) فإنهم ( يرجعون على المولى بقيمة العبد ) ويجعل المولى بذلك ضامنا لدرك ما ذاب عليه دفعا للغرور عن الناس ( بخلاف الرهن فإنه ليس عقد معاوضة بل عقد وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى جاز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه ) فلو هلك يقع استيفاء للدين ، فلو كان معاوضة كان استبدالا بالمسلم فيه قبل قبضه وهو حرام ، وإذا لم يكن عقد معاوضة لا يجعل الأمر به ضمانا لأنه ليس تغريرا في عقد معاوضة ، ولهذا قالوا : لو قال رجل لآخر وقد سأله عن [ ص: 48 ] أمن هذا الطريق فقال اسلكه فإنه آمن فسلكه فنهب ماله لم يضمن ، وكذا لو قال كل هذا الطعام فإنه ليس بمسموم فأكله فمات لا قصاص عليه ، غير أنه استحق عند الله عذابا لا يطاق ( وبخلاف الأجنبي لأنه لا يعبأ بقوله ) فالرجل هو الذي اغتر .

قال المصنف ( ثم في وضع المسألة ضرب إشكال على قول أبي حنيفة لأن الدعوى ) أي دعوى الحرية ( شرط ) في القضاء ببينتها والدعوى لا تصح من هذا العبد للتناقض ، فإن دعوى الحرية تناقض تصريحه برقه .

فأجيب من جهة بعض المشايخ أن هذه الدعوى إن كانت بحرية الأصل ( فالدعوى ليست بشرط عنده ) كقولهما في دعوى الحرية مطلقا ( لتضمنه تحريم فرج أمه ) على السيد وتحريم أخواتها وبناتها ، وحرمة الفرج حقه تعالى والدعوى ليست شرطا في حق الله تعالى كما في عتق الأمة حتى أن الشهود يحتاجون في شهادتهم إلى تعيين الأم ، والحرمات لا تحتاج في القضاء بها إلى الدعوى ، وإذا لم تحتج إلى الدعوى لا يضر التناقض فيها ( وقيل هو ) أي الدعوى ( شرط ) مطلقا في حرية الأصل ودعوى الإعتاق في الكافي والصحيح أن دعوى العبد شرط عند أبي حنيفة في حرية الأصل والعتق العارض ( لكن التناقض ) في دعوى الحرية لا يمنع صحة الدعوى بها ، أما في حرية الأصل ( فلخفاء ) حال ( العلوق ) فإنه يسبى مع أمه أو بدونها ولا يعلم بحريتها ورقها حال العلوق به فيقر بالرق ثم تظهر له حرية أمه فيدعي الحرية ، وفي الإعتاق العارض فلأن المولى ينفرد به ، ولا يعلم العبد فيقر بالرق [ ص: 49 ] ثم يعلمه فيدعيه ، والتناقض في دعوى ما فيه خفاء يعذر فيه ( وصار كالمختلعة تقيم البينة على تطليق ) الزوج إياها ( ثلاثا قبل اختلاعها ) تقبل ( وكذا المكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة ) تقبل مع أن اتفاقهما على سؤال الخلع والكتابة إقرار بقيام العصمة والرق ولم يضرهما التناقض للخفاء فترجع المرأة والمكاتب ببدل الخلع ومال الكتابة .

وذكر هنا مسألة الجامع الكبير وهي أصل في الاستحقاق .

وهي : رجل اشترى من آخر ثوبا فقطعه قميصا وخاطه ثم جاء مستحق فقال هذا القميص لي وأثبته بالبينة فالمشتري لا يرجع بالثمن على البائع ، لأن الاستحقاق ما ورد على ملك البائع ، لأنه لو كان ملكه في الأصل انقطع بالقطع والخياطة كمن غصب ثوبا فقطعه وخاطه ينتقل ملك المغصوب منه الثوب إلى الضامن ، فالأصل أن الاستحقاق إذا ورد على ملك البائع الكائن من الأصل يرجع عليه ، وإن ورد على ملك المشتري بعدما صار إلى حال لو كان غصبا ملكه به لا يرجع على البائع لأنه متيقن الكذب ، ولهذا لو اشتراها منذ شهرين فأقام رجل بينة أنها له منذ شهر يقضى بها له ولا يرجع على بائعه ، وعرف أن المعنى أن يستحقه باسم القميص ، ولو كان أقام البينة أنه كان له قبل هذه الصفة رجع المشتري بالثمن .

وعلى هذا الجواب إذا اشترى حنطة وطحنها ثم استحق الدقيق ; ولو قال كانت قبل الطحن لي يرجع ، وكذا إذا اشترى لحما فشواه .

ولو اشترى شاة فذبحها وسلخها فأقام البينة رجل آخر أن الرأس والأطراف واللحم والجلد له فقضي بها رجع المشتري على البائع لأن هذا استحقاق عين الشاة




الخدمات العلمية