الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1300 120 - حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال : لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلى عليه ، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا - أعدد عليه قوله - فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أخر عني يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين فغفر له لزدت عليها ، قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا إلى وهم فاسقون قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ، والله ورسوله أعلم " . [ ص: 193 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 193 ] مطابقته للترجمة في قوله : ولا تصل على أحد منهم لأن قوله " لا تصل " نهي ، والنهي يقتضي الكراهة . فإن قلت : من الترجمة قوله " والاستغفار للمشركين " ، وليس في حديث الباب ما يدل على النهي عن الاستغفار للمشركين ! قلت : في قوله " حتى نزلت الآيات " ما يدل على ذلك ; لأن من جملة الآيات قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم الآية ، وقوله : فلن يغفر الله لهم يدل على منع الاستغفار لهم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم سبعة ; الأول : يحيى بن بكير - بضم الباء الموحدة - وقد مر . الثاني : الليث بن سعد . الثالث : عقيل - بضم العين - ابن خالد . الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب . الخامس : عبيد الله - بضم العين - ابن عبد الله - بفتح العين - ابن عيينة بن مسعود ، أحد الفقهاء السبعة . السادس : عبد الله بن عباس . السابع : عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع ، وفيه العنعنة في خمسة مواضع ، وفيه أن شيخه منسوب إلى جده لأنه يحيى بن عبد الله بن بكير وهو والليث مصريان وعقيل أيلي وابن شهاب وعبيد الله مدنيان ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي ، وفيه رواية الصحابي عن الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن يحيى بن بكير عن الليث ، وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد . وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الله بن عمار ومحمد بن رافع ، وفي الجنائز عن محمد بن عبد الله بن المبارك . وأخرجه البخاري أيضا من طريق ابن عمر في باب الكفن في القميص عن مسدد عن يحيى عن سعيد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  وقد مضى الكلام فيه مستوفى ، ونذكر هنا بعض شيء .

                                                                                                                                                                                  قوله ( دعي ) على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أتصلي عليه ) ، الهمزة فيه للاستفهام .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أعدد عليه ) ، قوله أي أعد على النبي - صلى الله عليه وسلم - قول عبد الله بن أبي من أقواله القبيحة في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فلما أكثرت عليه ) ; أي فلما زدت الكلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني خيرت ; على صيغة المجهول ، وذلك في قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم

                                                                                                                                                                                  قوله ( فاخترت ) ; أي الاستغفار .

                                                                                                                                                                                  قوله ( حتى نزلت الآيات ) ، ويروى : حتى نزلت الآيتان ; الأولى قوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون والآية الثانية هي قوله : استغفر لهم الآية . وأما على رواية الآيات فمن قوله : استغفر لهم - إلى قوله : وهم فاسقون

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : قال الداودي : هذه الآيات في قوم بأعيانهم ، يدل عليه قوله تعالى : وممن حولكم من الأعراب الآية ، فلم ينه عما لم يعلم ، وكذلك إخباره لحذيفة بسبعة عشر من المنافقين وقد كانوا يناكحون المسلمين ويوارثونهم ويجري عليهم حكم الإسلام استتارهم بكفرهم ، ولم ينه الناس عن الصلاة عليهم ، إنما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وحده ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه ينظر إلى حذيفة رضي الله تعالى عنهما فإن شهد جنازة ممن يظن به شهد وإلا لم يشهده ، ولو كان أمرا ظاهرا لم يسره الشارع إلى حذيفة ، وذكر عن الطبري أنه يجب ترك الصلاة على معلن الكفر ومسره ، بهذا قال ، فأما المقام على قبره فغير محرم بل جائز لوليه القيام عليه لإصلاحه ودفنه ، وبذلك صح الخبر وعمل به أهل العلم ، وفي التوضيح : وهذا خلاف ما قدمنا أن ولد الكافر لا يدفنه ولا يحضر دفنه . وفي النوادر عن ابن سيرين : ما حرم الله الصلاة على أحد من أهل القبلة إلا على ثمانية عشر رجلا من المنافقين ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه : اذهب فواره ; يعني أباك . وروى سعيد بن جبير قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : كان ينبغي أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاة ما دام حيا ، فإذا مات وكله إلى أشباهه ، ثم قرأ : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة . . . الآية . وقال النخعي : توفيت أم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وهي نصرانية ، فاتبعها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكرمة للحارث ولم يصلوا عليها ، ثم فرض على جميع الأمة أن لا يدعوا لمشرك ولا يستغفروا له إذا مات على شركه ، قال تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا الآية ، وقد بين الله تعالى عذر إبراهيم في استغفاره لأبيه فقال : إلا عن موعدة وعدها إياه فدعا له وهو يرجو إنابته ورجوعه إلى الإيمان ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . ففي هذا من الفقه أنه جائز أن يدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته بالهداية [ ص: 194 ] ما دام حيا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - إذا شمت أحد المنافقين واليهود قال : يهديكم الله ويصلح بالكم ، وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار ويختم له بعمل أهل الجنة . وفيه تصحيح القول بدليل الخطاب لاستعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، وذلك أن إخباره تعالى أنه لا يغفر له ولو استغفر له سبعين مرة يحتمل أنه لو زاد عليها كان يغفر له ، لكن لما شهد الله تعالى أنه كافر بقوله تعالى : ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله دلت هذه الآية على تغليب أحد الاحتمالين وهو أنه لا يغفر له لكفره ، فلذلك أمسك - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء له ، وفي إقدام عمر رضي الله تعالى عنه على مراجعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفقه أن الوزير الفاضل الناصح لا حرج عليه في أن يخبر سلطانه بما عنده من الرأي وإن كان مخالفا لرأيه ، وكان عليه فيه بعض الخفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه ، فإنه لا يلزمه اللوم على ما يؤديه إليه اجتهاده ولا يتوجه إليه سوء الظن وإن صبر السلطان على ذلك من تمام فضله ، ألا يرى سكوته - صلى الله عليه وسلم - عن عمر وتركه الإنكار عليه ، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر الأسوة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية