الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1325 145 - حدثنا محمد بن مقاتل قال : أخبرنا عبد الله قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن سفيان التمار أنه حدثه أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنما .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم أربعة ; الأول : محمد بن مقاتل ، أبو الحسن المروزي المجاور بمكة . الثاني : عبد الله بن المبارك المروزي . الثالث : أبو بكر بن عياش - بالياء آخر الحروف المشددة ، وفي آخره شين معجمة - الكوفي المقرئ المحدث ، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة . الرابع : سفيان بن دينار الكوفي التمار - بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الميم - وهو من كبار أتباع التابعين ، وقد لحق عصر الصحابة رضي الله عنهم ولم تعرف له رواية عن صحابي ، وفي تاريخ البخاري : سفيان بن زياد - ويقال ابن دينار - التمار العصفري ، وزعم الباجي أن بعضهم فرق بين ابن زياد وبين أبي دينار ، وزعم أنه هو المذكور عند البخاري في الصحيح وكل منهما كوفي عصفري ، ولم يرو البخاري عن أبي دينار التمار إلا قوله هذا ، وقد وثقه ابن معين وغيره . وروى ابن أبي شيبة هذا القول ، وزاد : وقبر أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما مسنمين . ورواه أبو نعيم في المستخرج : وقبر أبي بكر وعمر كذلك . وقال إبراهيم النخعي : أخبرني من رأى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض . وقال الشعبي رحمه الله تعالى : رأيت قبور شهداء أحد مسنمة . وكذا فعل بقبر عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، وقال الليث : حدثني يزيد بن أبي حبيب أنه يستحب أن تسنم القبور ولا ترفع ، ولا يكون عليها تراب كثير . وهو قول الكوفيين والثوري ومالك وأحمد ، واختاره جماعة من الشافعية - منهم المزني - أن القبور تسنم ; لأنها أمنع من الجلوس عليها . وقال أشهب وابن حبيب : أحب إلي أن يسنم القبر ، وإن يرفع فلا بأس . وقال طاوس : كان يعجبهم أن يرفع القبر شيئا حتى يعلم أنه قبر . وادعى القاضي حسين اتفاق أصحاب الشافعي على التسنيم ، ورد عليه بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعي ، وبه جزم الماوردي وآخرون ، وفي التوضيح : وقال الشافعي : تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع ، وتكون على وجه الأرض نحوا من شبر . قال : وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه الحصباء ورش عليه الماء ، وأن مقبرة الأنصار والمهاجرين مسطحة قبورهم . وروى عن مالك مثله ، واحتج الشافعي أيضا بما روى الترمذي عن أبي الهياج الأسدي - واسمه حيان - قال لي علي : ألا أبعثك على ما بلغني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته . وبما روى أبو داود عن القاسم بن محمد قال : دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت : يا أماه ، اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة ; مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدما وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي [ ص: 225 ] - صلى الله عليه وسلم - وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب الهداية : ويسنم القبر من التسنيم ، وتسنيمه رفعه من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلا . وفي ديوان الأدب : يقال قبر مسنم أي غير مسطح . وبه قال موسى بن طلحة ويزيد بن أبي حبيب والثوري والليث ومالك وأحمد ، وفي المغني : واختار التسنيم أبو علي الطبري وأبو علي بن أبي هريرة والجويني والغزالي والروياني والسرخسي . وذكر القاضي حسين اتفاقهم عليه ، وخالفوا الشافعي في ذلك ، والجواب عما رواه الشافعي أنه ضعيف ومرسل وهو لا يحتج بالمرسل ، وعما رواه الترمذي أن المراد من المشرفة المذكورة فيه هي المبنية التي يطلب بها المباهاة ، وعما رواه أبو داود أن رواية البخاري تعارضها .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال البيهقي والبغوي : ورواية القاسم بن محمد أصح وأولى أن تكون محفوظة . قلت : قال صاحب اللباب : هذه كبوة منهما بما رفلا فيه من ثياب التعصب والعناد ، وإلا فأحمد يرجح رواية أبي داود على رواية البخاري في صحيحه ، وقال صاحب المغني : رواية البخاري أصح وأولى . وقال شمس الأئمة السرخسي : التربيع من شعار الرافضة . وقال ابن قدامة : التسطيح هو شعار أهل البدع ، فكان مكروها . وقال المزني في كتاب الجنائز : إذا ثبت أحد الخبرين المسطح أو المسنم فأشبه الأمرين بالميت ما لا يشبه المصانع ليجلس عليه ، والمسطح يشبه ما يصنع للجلوس ، وليس المسنم هو موضع الجلوس ، وقد نهي عن الجلوس على القبور . وقال المزني : وفي التسنيم منع الجلوس ، فهو أمنع من أن يجلس عليها وأشبه بأمر الآخرة ، ولكن لا يزاد فيه أكثر من ترابه ، ويعلم ليعرف فيدعى له . وقال بعضهم : وقول سفيان التمار لا حجة فيه - كما قاله البيهقي - لاحتمال أن قبره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في الأول مسنما . ثم ذكر ما ذكرناه عن أبي داود ، قلت : قد أبعد عن منهج الصواب من يحتج بالاحتمال ، مع أن هذا القائل لا يقدم شيئا على رواية البخاري ، وعند قيام التعصب يحيد عن ذلك . ثم قال هذا القائل : ثم الاختلاف في ذلك أيهما أفضل لا في أصل الجواز . ثم قال : ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه مر بقبر فسوي ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يأمر بتسويتها . قلت : إنما أمر بالتسوية لأجل البناء الذي يبنى عليها ، ولا سيما إذا كان للمباهاة كما ذكرنا ، وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار في كتابه الدرة الثمينة في أخبار المدينة أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه في صفة بيت عائشة رضي الله تعالى عنها ، قال : وفي البيت موضع قبر في السهوة المشرفة ، قال سعيد بن المسيب : فيه يدفن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . وعن عبد الله بن سلام قال : يدفن عيسى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون قبره رابعا . وعن عثمان بن نسطاس قال : رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هدمه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه مرتفعا نحو أربعة أصابع ، ورأيت قبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه وراء قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبر عمر رضي الله تعالى عنه أسفل منه . وعن عمرة عن عائشة قالت : رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يلي المغرب ، ورأس أبي بكر عند رجليه صلى الله عليه وسلم ، وعمر خلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم . وعن نافع بن أبي نعيم : قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامهما إلى القبلة مقدما ، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر . وعن محمد بن المبارك قال : قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا ، وقبر أبي بكر خلفه ، وقبر عمر عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عقيل : قبر أبي بكر عند رجليه صلى الله عليه وسلم ، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر . وقال ابن التين : يقال : إن أبا بكر خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاز ملحده ملحد النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأس عمر عند رجلي أبي بكر قد حازت رجلاه رجلي النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  وقد ذكرت في صفة قبورهم أقوال ، فالأكثر هكذا .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 226 ] وقد استدلت جماعة على فضيلة الشيخين بمجاورتهما ملحده - صلى الله عليه وسلم - ولقرب طينهما من طينه لما في حديث أبي سعيد الخدري في الحبشي المذكور في أوائل الباب ، وله شواهد أكثرها صحيحة ; منها حديث جندب بن سفيان يرفعه : إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له بها حاجة . وحديث ابن مسعود ومطرز بن مكامس وعروة بن مضرس بنحوه ، وفي الحلية لأبي نعيم الحافظ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته . وقال : هذا حديث غريب . وفي نوادر الأصول للحكيم أبي عبد الله الترمذي من حديث مرة الطيب عن عبد الله بن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيعجنها بالتراب الذي يدفن في بقعته ، فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم وفي التمهيد من حديث عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، حدثنا أبي ، عن داود بن أبي هند ، حدثني عطاء الخراساني أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة ، فتخلق من التراب ومن النطفة ، فذلك قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى وعند الترمذي أبي عبد الله : قال محمد بن سيرين : لو حلفت حلفت صادقا بارا غير شاك ولا مستثن أن الله تعالى ما خلق نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية