قال الشيخ الإمام القدوة الزاهد العابد العارف
عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي الذي قال في حقه شيخ الإسلام
ابن تيمية : إنه جنيد وقته ، وكان من أصحاب
ابن تيمية المعتبرين ، في رسالته التي كتبها لجماعة شيخ الإسلام يحثهم على متابعته ويعظمه في نفوسهم ويذكر لهم من حقه ما يجب .
قال في أول الرسالة : وأبدأ من ذلك بأني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا كما بين سبحانه وتعالى قائلا وموصيا {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=131ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وقد علمتم تفاصيل
nindex.php?page=treesubj&link=19892_19891التقوى على الجوارح والقلوب بحسب الأوقات والأحوال من الأقوال والأعمال والإرادات والنيات .
وينبغي لنا جميعا أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها ، ومع ذلك فليكن لنا همة علوية تترامى إلى أوطان القرب ونفحات المحبوبية والحب ، فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب وكان سيده ومولاه منه على سائر الأحوال قريبا ، إلى أن قال : وليكن لنا جميعا من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه ، وتعالى قدسه ، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ، ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا ، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار ، فبذلك يعرف
[ ص: 61 ] الإنسان مع ربه .
فمن كان له مع ربه حال تحركت في تلك الساعة عزائمه ، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره ، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده ، فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار ، لما احتوشته من الهموم الدنيوية ذوات الآصار ، فليعلم أنه ليس له ثم رابطة علوية ، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية ، فليبك على نفسه ، ولا يرضى منها إلا بنصيب من قرب ربه وأنسه .
فإذا خلصت لله تلك الساعة أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع ، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة بساعة لله الواحد القهار نعبده فيها حق عبادته ، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج .
وقال في محل آخر في غير الرسالة : ويحاسب الإنسان نفسه في حركات جوارحه السبع من حين تطلع الشمس إلى أن تغيب ، ومن غروبها إلى أن تطلع ، وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، وسيأتي الكلام عليها .
وأصل الجميع القلب بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1734ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم .
فإصلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه ، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة ربه ومحبة ما يحبه ، وخشيته وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركات جوارحه كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي المشتبهات ، حذرا من الوقوع في المحرمات وحصلت له السلامة من جميع الآفات ، والعافية من كل الهلكات .
وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه ، وطلب ما يحبه ولو كرهه مولاه ، فسدت حركات الجوارح ، وانبعث إلى كل المعاصي والقبائح . ولذا يقال القلب ملك الأعضاء وهي جنوده الطائعة ، وحركتها كلها لحركته تابعة .
فإن كان الملك صالحا كانت الجنود صالحة ، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه الحالة الفاضحة . وقد نص القرآن الحكيم ، أنه لا ينفع عند الله إلا القلب السليم . وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39166وأسألك قلبا سليما } فالقلب السليم هو الذي ليس فيه سوى ما يحبه الرب الحكيم .
[ ص: 62 ] وفي مسند سيدنا الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد طيب الله مثواه عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك خادم رسول الله رضي الله عنه وأرضاه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31671لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه } قال
الحافظ ابن رجب - عليه رحمة ربه - : المراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه في طاعة ربه ، فإن أعمالها لا تستقيم إلا باستقامة قلبه .
nindex.php?page=treesubj&link=19898ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئا من تعظيم الله وحبه ، وحب طاعته ، وكراهة معصيته وغضبه .
قال
الحسن لرجل : داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ، يعني أن مطلوب الرب من العباد ، صلاح قلوبهم من المحن والفساد ، ولا صلاح للقلوب ، حتى تستقر فيها معرفة علام الغيوب ، وتمتلئ من خوفه وخشيته ومحبته وعظمته والتوكل عليه ومهابته والالتجاء إليه ، وهذا حقيقة التوحيد لله تعالى ، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) فلا صلاح للقلوب حتى تفرد محبة المحبوب .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15124الليث عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد في قوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80لا تشركوا بي شيئا } لا تحبوا غيري .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14410الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء } وأدناه أن يحب على شيء من الجور ، وأن يبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض . قال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=31قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي ويدل على ذلك قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=31قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35583من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان } قال
الحافظ ابن رجب : ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا . ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله ، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه .
قال
الحسن ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية ، فإن كانت طاعة
[ ص: 63 ] تقدمت ، وإن كانت معصية تأخرت .
وقال
محمد بن الفضيل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل .
وقيل
nindex.php?page=showalam&ids=15853لداود الطائي : لو تنحيت من الظل إلى الشمس ، فقال هذه خطا لا أدري كيف تكتب . فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله صلحت جوارحهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل مما فيه رضاه .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْعَارِفُ
عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ : إنَّهُ جُنَيْدُ وَقْتِهِ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْمُعْتَبَرِينَ ، فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا لِجَمَاعَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يَحُثُّهُمْ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَظِّمُهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ مِنْ حَقِّهِ مَا يَجِبُ .
قَالَ فِي أَوَّلِ الرِّسَالَةِ : وَأَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنِّي أُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْنَا وَإِلَى الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِنَا كَمَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلًا وَمُوَصِّيًا {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=131وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ } وَقَدْ عَلِمْتُمْ تَفَاصِيلَ
nindex.php?page=treesubj&link=19892_19891التَّقْوَى عَلَى الْجَوَارِحِ وَالْقُلُوبِ بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ .
وَيَنْبَغِي لَنَا جَمِيعًا أَنْ لَا نَقْنَعَ مِنْ الْأَعْمَالِ بِصُوَرِهَا حَتَّى نُطَالِبَ قُلُوبَنَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِحَقَائِقِهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ لَنَا هِمَّةٌ عُلْوِيَّةٌ تَتَرَامَى إلَى أَوْطَانِ الْقُرْبِ وَنَفَحَاتِ الْمَحْبُوبِيَّةِ وَالْحُبِّ ، فَالسَّعِيدُ مَنْ حَظِيَ مِنْ ذَلِكَ بِنَصِيبٍ وَكَانَ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ مِنْهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ قَرِيبًا ، إلَى أَنْ قَالَ : وَلْيَكُنْ لَنَا جَمِيعًا مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَاعَةٌ نَخْلُو فِيهَا بِرَبِّنَا جَلَّ اسْمُهُ ، وَتَعَالَى قُدْسُهُ ، نَجْمَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ هُمُومَنَا ، وَنَطْرَحُ أَشْغَالَ الدُّنْيَا عَنْ قُلُوبِنَا ، فَنَزْهَدُ فِيمَا سِوَى اللَّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، فَبِذَلِكَ يَعْرِفُ
[ ص: 61 ] الْإِنْسَانُ مَعَ رَبِّهِ .
فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعَ رَبِّهِ حَالٌ تَحَرَّكَتْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَزَائِمُهُ ، وَابْتَهَجَتْ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ سَرَائِرُهُ ، وَطَالَتْ إلَى الْعُلَا زَفَرَاتُهُ وَكَوَامِنُهُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ أُنْمُوذَجٌ لِحَالَةِ الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ حِينَ خُلُوِّهِ عَنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ ، فَمَنْ لَمْ يَخْلُ قَلْبُهُ لِلَّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، لَمَا احْتَوَشَتْهُ مِنْ الْهُمُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ ذَوَاتُ الْآصَارِ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَمَّ رَابِطَةٌ عُلْوِيَّةٌ ، وَلَا نَصِيبٌ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَلَا الْمَحْبُوبِيَّةِ ، فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَرْضَى مِنْهَا إلَّا بِنَصِيبٍ مِنْ قُرْبِ رَبِّهِ وَأُنْسِهِ .
فَإِذَا خَلَصْت لِلَّهِ تِلْكَ السَّاعَةُ أَمْكَنَ إيقَاعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى نَمَطِهَا مِنْ الْحُضُورِ وَالْخَشْيَةِ وَالْهَيْبَةِ لِلرَّبِّ الْعَظِيمِ فِي السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَبْخَلَ عَلَى أَنْفُسِنَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً بِسَاعَةٍ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ نَعْبُدُهُ فِيهَا حَقَّ عِبَادَتِهِ ، ثُمَّ نَجْتَهِدُ عَلَى إيقَاعِ الصَّلَوَاتِ عَلَى ذَلِكَ النَّهْجِ .
وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فِي غَيْرِ الرِّسَالَةِ : وَيُحَاسِبُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي حَرَكَاتِ جَوَارِحِهِ السَّبْعِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَغِيبَ ، وَمِنْ غُرُوبِهَا إلَى أَنْ تَطْلُعَ ، وَهِيَ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا .
وَأَصْلُ الْجَمِيعِ الْقَلْبُ بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1734أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=17080وَمُسْلِمٌ .
فَإِصْلَاحُ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ بِجَوَارِحِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَاتِّقَائِهِ لِلشُّبُهَاتِ بِحَسَبِ صَلَاحِ حَرَكَةِ قَلْبِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَحَبَّةُ رَبِّهِ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ ، وَخَشْيَتُهُ وَخَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِيمَا يَكْرَهُهُ ، صَلَحَتْ حَرَكَاتُ جَوَارِحِهِ كُلُّهَا ، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا وَتَوَقِّي الْمُشْتَبِهَاتِ ، حَذَرًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَحَصَلَتْ لَهُ السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ ، وَالْعَافِيَةُ مِنْ كُلِّ الْهَلَكَاتِ .
وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فَاسِدًا قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ اتِّبَاعُ هَوَاهُ ، وَطَلَبُ مَا يُحِبُّهُ وَلَوْ كَرِهَهُ مَوْلَاهُ ، فَسَدَتْ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ ، وَانْبَعَثَ إلَى كُلِّ الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ . وَلِذَا يُقَالُ الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَهِيَ جُنُودُهُ الطَّائِعَةُ ، وَحَرَكَتُهَا كُلُّهَا لِحَرَكَتِهِ تَابِعَةٌ .
فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ صَالِحًا كَانَتْ الْجُنُودُ صَالِحَةً ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا كَانَتْ جُنُودُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْفَاضِحَةِ . وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ ، أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا الْقَلْبُ السَّلِيمُ . وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39166وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا } فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سِوَى مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ الْحَكِيمُ .
[ ص: 62 ] وَفِي مُسْنَدِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ طَيَّبَ اللَّهُ مَثْوَاهُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=9أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31671لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ } قَالَ
الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ - عَلَيْهِ رَحْمَةُ رَبِّهِ - : الْمُرَادُ بِاسْتِقَامَةِ إيمَانِهِ اسْتِقَامَةُ أَعْمَالِ جَوَارِحِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ ، فَإِنَّ أَعْمَالَهَا لَا تَسْتَقِيمُ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=19898وَمَعْنَى اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَحُبِّهِ ، وَحُبِّ طَاعَتِهِ ، وَكَرَاهَةِ مَعْصِيَتِهِ وَغَضَبِهِ .
قَالَ
الْحَسَنُ لِرَجُلٍ : دَاوِ قَلْبَك فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ إلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ ، يَعْنِي أَنَّ مَطْلُوبَ الرَّبِّ مِنْ الْعِبَادِ ، صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ مِنْ الْمِحَنِ وَالْفَسَادِ ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ فِيهَا مَعْرِفَةُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، وَتَمْتَلِئَ مِنْ خَوْفِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمَهَابَتِهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ مَعْنَى ( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى تُفَرِّدَ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=15124اللَّيْثُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=80لَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا } لَا تُحِبُّوا غَيْرِي .
وَفِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=14070الْحَاكِمِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14410الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ } وَأَدْنَاهُ أَنْ يُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْجَوْرِ ، وَأَنْ يُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَدْلِ وَهَلْ الدِّينُ إلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ . قَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=31قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى وَالْمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُعَادَاةُ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=31قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } .
وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35583مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } قَالَ
الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ : وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ إذَا كَانَتْ لِلَّهِ فَقَدْ كَمُلَ إيمَانُ الْعَبْدِ بِذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَيَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ صَلَاحُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا إرَادَةُ اللَّهِ وَإِرَادَةُ مَا يُرِيدُهُ لَمْ تَنْبَعِثْ الْجَوَارِحُ إلَّا فِيمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ ، فَسَارَعَتْ إلَى مَا فِيهِ رِضَاهُ وَكَفَّتْ عَمَّا يَكْرَهُهُ .
قَالَ
الْحَسَنُ مَا ضَرَبْت بِبَصَرِي وَلَا نَطَقْت بِلِسَانِي وَلَا بَطَشْت بِيَدِي وَلَا نَهَضْت عَلَى قَدَمِي حَتَّى أَنْظُرَ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً
[ ص: 63 ] تَقَدَّمْت ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً تَأَخَّرْت .
وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْبَلْخِيُّ : مَا خَطَوْت مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً خُطْوَةً لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقِيلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15853لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ : لَوْ تَنَحَّيْت مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ ، فَقَالَ هَذِهِ خَطًّا لَا أَدْرِي كَيْفَ تُكْتَبُ . فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمَّا صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إرَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ صَلَحَتْ جَوَارِحُهُمْ فَلَمْ تَتَحَرَّكْ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا فِيهِ رِضَاهُ .