الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3106 85 - حدثنا يحيى بن جعفر ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا استجنح الليل ، أو كان جنح الليل ، فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم ، وأغلق بابك ، واذكر اسم الله ، وأطفئ مصباحك ، واذكر اسم الله ، وأوك سقاءك واذكر اسم الله ، وخمر إناءك واذكر اسم الله ، ولو تعرض عليه شيئا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فإن الشياطين تنتشر " ويحيى بن جعفر بن أعين أبو زكريا البخاري البيكندي ، وهو من أفراده ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري من شيوخ البخاري ، وروى عنه هنا بواسطة ، وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز ، وعطاء بن أبي رباح .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأشربة عن إسحاق بن منصور . وأخرجه مسلم في الأشربة ، عن إسحاق بن منصور ، وعن أحمد بن عثمان . وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل . وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن أحمد بن عثمان ، وعن عمرو بن علي ، وعن عمرو بن دينار عن جابر .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) . قوله : " إذا استجنح " أي إذا أظلم الليل ، ومادته جيم ونون وحاء ، وقال ابن سيده : جنح الليل يجنح جنوحا وجنحا : إذا أظلم ، ويقال : إذا أقبل ظلامه ، والجنح بضم الجيم وكسرها لغتان ، وهو ظلام الليل ، وأصل الجنح الميل ، وقيل : جنح الليل أول ما يظلم . قوله : " أو كان جنح الليل ، وفي رواية الكشميهني : أو قال كان جنح الليل ، وحكى عياض أنه وقع في رواية أبي ذر : استجنع بالعين المهملة بدل الحاء ، وهو تصحيف ، وعند الأصيلي : وأول الليل بدل قوله : " إذا كان جنح الليل " وكان هذه تامة بمعنى وجد أو حصل . قوله : " فكفوا صبيانكم " أي ضموهم وامنعوهم من الانتشار ، وفي رواية : فاكفتوا ، ومادته كاف وفاء وتاء مثناة من فوق ، ومعناه ضموهم إليكم ، وكل من ضممته إلى شيء ، فقد كفته ، وفي رواية : ولا ترسلوا صبيانكم ، وقال ابن الجوزي : إنما خيف على الصبيان في ذلك الوقت ; لأن النجاسة التي يلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالبا ، والذكر الذي يستعصم به معدوم عندهم ، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به ، فلذلك خيف على الصبيان في ذلك الوقت ، والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار ; لأن الظلام أجمع لهم من غيره ، وكذلك كل سواد ، ويقال : إن الشياطين تستعين بالظلمة ، وتكره النور وتشاءم به . قوله : " فخلوهم " بفتح الخاء المعجمة هكذا في رواية الأكثرين ، وفي رواية السرخسي بضم الحاء المهملة . قوله : " وأغلق " من الإغلاق فلهذا يقال الباب مغلق ، ولا يقال مغلوق ، وإنما قال : فكفوا بصيغة الجمع ، وقال : أغلق بصيغة الإفراد ; لأن المراد بقوله أغلق لكل واحد ، وهو عام بحسب المعنى ، أو هو في معنى المفرد ، إذ مقابلة الجمع بالجمع تفيد التوزيع ، فكأنه قال : كف أنت صبيك ، كذا قاله الكرماني ، وقال بعضهم : ولا شك أن مقابلة المفرد بالمفرد تفيد التوزيع .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : ليس كذلك ، بل الصواب ما قاله الكرماني .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 174 ] قوله : " وأطفئ " أمر من الإطفاء ، إنما أمر بذلك ; لأنه جاء في الصحيح أن الفويسقة جرت الفتيلة ، فأحرقت أهل البيت ، وهو عام يدخل فيه السراج وغيره .

                                                                                                                                                                                  وأما القناديل المعلقة ، فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء ، وإن أمن ذلك كما هو من الغالب ، فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة ، وسبب ذلك أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - صلى على خمرة فجرت الفتيلة الفأرة فأحرقت من الخمرة مقدار الدرهم ، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ذلك ، نبه عليه ابن العربي ، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال : جاءت فأرة ، فأخذت تجر الفتيلة ، فجاءت بها ، وألقتها بين يدي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على الخمرة التي كان قاعدا عليها ، فأحرقت منها موضع درهم . قوله : " وأوك " أمر من الإيكاء ، وهو الشد ، والوكاء اسم ما يشد به فم القربة ، وهو ممدود مهموز ، والسقاء بكسر السين اللبن والماء ، والوطب للبن خاصة ، والنحي للسمن والقربة للماء . قوله : " وخمر " أمر من التخمير ، وهو التغطية ، وللتخمير فوائد صيانة من الشياطين والنجاسات والحشرات وغيرها ، ومن الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة ، وفي رواية : أن في السنة لليلة ، وفي رواية : يوما ، ينزل وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء ، أو شيء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه ذلك الوباء ، قال الليث بن سعد : والأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول . قوله : " ولو تعرض عليه " شيئا بضم الراء وكسرها ، ومعناه : إن لم تقدر أن تغطي فلا أقل من أن تعرض عليه عودا ، أي تعرضه عليه بالعرض وتمده عليه عرضا ، أي خلاف الطول . قوله : " شيئا " وفي رواية عودا ، هذا مطلق في الآنية التي فيها شراب أو طعام .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يقول : أخبرني أبو حميد الساعدي ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن من النقيع ليس مخمرا ، قال : ألا خمرته ، ولو تعرض عليه عودا ، قال أبو حميد : إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلا ، وبالأبواب أن تغلق ليلا ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  فهذا أبو حميد قيد الإيكاء والإغلاق بالليل .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : قال النووي : ليس في الحديث ما يدل عليه ، والمختار عند الأصوليين وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة ، ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره .

                                                                                                                                                                                  وأما إذا كان في ظاهر الحديث ما يخالفه ، فإن كان مجملا يرجع إلى تأويله ، ويجب الحمل عليه ; لأنه إذا كان مجملا لا يحل له حمله على شيء إلا بتوقيف ، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عندنا ، بل يتمسك بالعموم ، وقد يقال : أبو حميد قال : أمرنا ، وهذا رواية لا تفسير ، وهو مرفوع على المختار ، ولا تنافي بين رواية أبي حميد والرواية الأخرى في يوم ، إذ ليس في أحدهما نفي للآخر ، وهما ثابتان .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : ما حكم أوامر هذا الباب ؟

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : جميعها من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية ، كقوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم وليس على الإيجاب وغايته أن يكون من باب الندب بل قد جعله كثير من الأصوليين قسما منفردا بنفسه عن الوجوب والندب ، وينبغي للمرء أن يمتثل أمره ، فمن امتثل أمره سلم من الضرر بحول الله وقوته ، ومتى والعياذ بالله خالف إن كان عنادا خلد فاعله في النار ، وإن كان عن خطأ أو غلط فلا يحرم شرب ما في الإناء ، أو أكله ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية