الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        3940 - حدثنا ابن أبي عمران ، قال : ثنا شجاع بن مخلد . ( ح ) .

                                                        3941 - وحدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قالا : ثنا هشيم ، عن منصور بن زاذان ، عن الحكم ، عن زياد بن مالك ، عن علي رضي الله عنه ، وعبد الله ، قالا : ( القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين ) .

                                                        فهذا علي وعبد الله قد ذهبا في طواف القارن إلى خلاف ما ذهب إليه ابن عمر رضي الله عنهما .

                                                        وأما وجه ذلك من طريق النظر ، فإنا رأينا الرجل إذا أحرم بحجة وجبت عليه بما فيها من الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، ووجب عليه في انتهاك ما قد حرم عليه بإحرامه بها من الكفارات ما يجب عليه في ذلك .

                                                        وكذلك إذا أحرم بعمرة ، وجبت عليه أيضا بما فيها من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، ووجب عليه في انتهاك ما حرم عليه بإحرامه بها من الكفارات ، ما يجب عليه في ذلك .

                                                        [ ص: 206 ] وكان إذا جمعهما ، فكل قد أجمع أنه في حرمتين : حرمة حج ، وحرمة عمرة .

                                                        فكان يجيء في النظر أن يجب عليه لكل واحد منهما من الطواف والسعي ، وغير ذلك من الكفارات ، في انتهاك الحرم ، التي حرمت عليه فيها ، ما كان يجب عليه لها ، لو أفردها .

                                                        فأدخل على هذا القول ، فقيل : فقد رأينا الحلال يصيب الصيد في الحرم ، فيجب عليه الجزاء ، لحرمة الحرم ، ورأينا المحرم يصيب صيدا في الحل ، فيجب عليه الجزاء لحرمة الحرام .

                                                        ورأينا المحرم إذا أصاب صيدا في الحرم وجب عليه جزاء واحد ، لحرمة الإحرام ، ودخل فيه حرمة الجزاء لحرمة الحرم .

                                                        وهو في وقت ما أصاب ذلك الصيد في حرمتين : في حرمة إحرام ، وحرمة حرم ، فلم يجب عليه لكل واحدة من الحرمتين ما كان يجب عليه لها لو أفردها .

                                                        قالوا : فكذلك القارن ، فيما كان يجب عليه لكل واحدة من عمرته وحجته لو أفردها ، لا يجب عليه في ذلك لما جمعهما إلا مثل ما يجب عليه في إحديهما ، ويدخل ما كان يجب عليه للأخرى ، لو كانت مفردة في ذلك .

                                                        قيل له : إنكم لم تقطعوا أن ما يجب على المحرم في قتله الصيد في الحرم جزاء واحد .

                                                        وقد قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد رحمهم الله : إن القياس كان عندهم في ذلك ، أنه يجب عليه جزاءان : جزاء لحرمة الإحرام ، وجزاء لحرمة الحرم ، وأنهم إنما خالفوا ذلك استحسانا .

                                                        ولكنا لا نقول في ذلك كما قالوا ، بل القياس عندنا في ذلك ما ذكروا أنهم استحسنوه .

                                                        وذلك أنا رأينا الأصل المجتمع عليه أنه يجوز للرجل أن يجمع بين حجة وعمرة ، ولا يجمع بين حجتين ، ولا بين عمرتين .

                                                        فكان له أن يجمع بإحرام واحد بين شكلين مختلفين ، فيدخل بذلك فيهما ، ولا يجمع بين شيئين من صنف واحد .

                                                        فلما كان ما ذكرنا كذلك ، كان له أن يجمع أيضا بأدائه جزاء واحدا ، ما يجب عليه بحرمتين مختلفتين ، وهما حرمة الحرم التي لا يجزئ فيها الصوم ، وحرمة الإحرام التي يجزئ فيها الصوم ، ويكون بذلك الجزاء الواحد مؤديا ، عما يجب عليه فيهما .

                                                        فلم يكن له أن يجمع بأدائه جزاء واحدا ، عما يجب عليه في انتهاك حرمتين مؤتلفتين من شكل واحد ، وهما حرمة العمرة ، وحرمة الحج .

                                                        كما لم يكن له أن يدخل بإحرام واحد في حرمة شيئين مؤتلفين .

                                                        ولما كان ما ذكرنا أيضا كذلك ، وكان الطواف للحجة ، والطواف للعمرة من شكل واحد ، لم يكن بطواف واحد داخلا فيهما ، ولم يكن ذلك الطواف مجزئا عنهما ، واحتاج أن يدخل في كل واحد منهما دخولا ، [ ص: 207 ] على حدة ، قياسا ونظرا على ما ذكرنا مما يجمعه بإحرام واحد ، من الحجة والعمرة المختلفين ، ومما ذكرنا مما لا يجمعه من الحجتين المؤتلفتين ، والعمرتين المؤتلفتين .

                                                        فإن قال قائل : فقد رأيناه يحل من حجته وعمرته بحلق واحد ، ولا يكون عليه غير ذلك ، فكذلك أيضا يطوف لهما طوافا واحدا ، ويسعى لهما سعيا واحدا ، ليس عليه غير ذلك .

                                                        قيل له : قد رأيناه يحل بحلق واحد من إحرامين مختلفين ، لا يجزيه فيهما إلا طوافان مختلفان .

                                                        وذلك أن رجلا لو أحرم بعمرة ، فطاف لها وسعى ، وساق الهدي ، ثم حج من عامه ، فصار بذلك متمتعا ، أنه كان حكمه يوم النحر أن يحلق حلقا واحدا ، فيحل بذلك منهما جميعا .

                                                        فكان يحل بحلق واحد من إحرامين مختلفين ، قد كان دخل فيهما دخولا متفرقا .

                                                        ولم يكن ما وجب من ذلك من حكم الحلق ، موجبا أن حكم الطواف لهما كان كذلك ، وأنه طواف واحد ، بل هو طوافان .

                                                        فكذلك مما ذكرنا من حلق القارن لعمرته وحجته حلقا واحدا ، لا يجب به أن يكون كذلك لحكم طوافه لهما طوافا واحدا .

                                                        ولما كان قد يحل في الإحرامين اللذين قد دخل فيهما دخولا متفرقا ، بحلق واحد ، كان في الإحرامين اللذين قد دخل فيهما دخولا واحدا ، أحرى أن يحل منهما كذلك .

                                                        فهذا هو النظر في هذا الباب على ما روي عن علي رضي الله عنه وعبد الله من وجوب الطواف لكل واحدة من العمرة والحجة ، وعلى ما ذكرنا من النظر على ذلك ، من وجوب الجزاء لكل واحدة منهما في انتهاك حرمتهما .

                                                        وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله تعالى .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية