الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4149 - حدثنا محمد ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن يونس بن عبيد - صاحب الحلي - قال : سألت ابن عباس عن المملوك إذا حج ثم عتق بعد ذلك ؟ قال : عليه الحج أيضا ، وعن الصبي يحج ثم يحتلم ، قال : يحج أيضا .

                                                        وقد زعمتم أن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله ، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قد ذكرنا في أول هذا الباب ، ثم قال هو ما قد ذكرنا .

                                                        فيجب على أصلكم أن يكون ذلك دليلا على معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك .

                                                        فإن قال قائل : فما الذي دل على أن ذلك الحج لا يجزيه من حجة الإسلام ؟ قلت : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصغير حتى يكبر " . وقد ذكرت ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع ، من هذا الكتاب ، فلما ثبت أن القلم عن الصبي مرفوع ، ثبت أن الحج عليه غير مكتوب ، وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل في وقت صلاة فصلاها ، ثم بلغ بعد ذلك في وقتها أن عليه أن يعيدها ، وهو في الحكم من لم يصلها .

                                                        فلما ثبت ذلك من اتفاقهم ، ثبت أن الحج كذلك ، وأنه إذا بلغ وقد حج قبل ذلك ، أنه في حكم من لم يحج ، وعليه أن يحج بعد ذلك ، [ ص: 258 ] فإن قال قائل : فقد رأينا في الحج حكما يخالف حكم الصلاة ، وذلك أن الله عز وجل إنما أوجب الحج على من وجد إليه سبيلا ، ولم يوجبه على غيره .

                                                        فكان من لم يجد سبيلا إلى الحج ، فلا حج عليه ، كالصبي الذي لم يبلغ .

                                                        ثم قد أجمعوا أن من لم يجد سبيلا إلى الحج ، فحمل على نفسه ومشى حتى حج ، أن ذلك يجزيه ، وإن وجد إليه سبيلا بعد ذلك ، لم يجب عليه أن يحج ثانية ، للحجة التي قد كان حجها قبل وجوده السبيل .

                                                        فكان النظر - على ذلك - أن يكون كذلك الصبي إذا حج قبل البلوغ ، ففعل ما لم يجب عليه ، أجزأه ذلك ، ولم يجب عليه أن يحج ثانية بعد البلوغ .

                                                        قيل له : إن الذي لا يجد السبيل ، إنما سقط الفرض عنه لعدم الوصول إلى البيت ، فإذا مشى فصار إلى البيت ، فقد بلغ البيت ، وصار من الواجدين للسبيل ، فوجب الحج عليه لذلك ، فلذلك قلنا : إنه أجزأه حجة ، ولأنه صار بعد بلوغه البيت كمن كان منزله هنالك ، فعليه الحج .

                                                        وأما الصبي ففرض الحج غير واجب عليه ، قبل وصوله إلى البيت ، وبعد وصوله إليه ، لرفع القلم عنه ، فإذا بلغ بعد ذلك ، فحينئذ وجب عليه فرض الحج .

                                                        فلذلك قلنا : إن ما قد كان حجه قبل بلوغه ، لا يجزيه ، وأن عليه أن يستأنف الحج بعد بلوغه ، كمن لم يكن حج قبل ذلك .

                                                        فهذا هو النظر أيضا في هذا الباب ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله تعالى .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية