الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4196 - حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن ابن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها ، مثله . غير أنه لم يذكر الزيادة التي فيه على ما قبله .

                                                        فقد تواترت هذه الآثار عن عائشة بما ذكرنا ، بما لم يتواتر عن غيرها ، بما يخالف ذلك .

                                                        فإن كان هذا يؤخذ من طريق صحة الأسانيد ، فإن إسناد حديث عائشة رضي الله عنها هذا إسناد صحيح ، لا تنازع بين أهل العلم فيه .

                                                        وليس حديث جابر بن عبد الله كذلك ؛ لأن من رواه دون من روى حديث عائشة رضي الله عنها .

                                                        وإن كان ذلك يؤخذ من طريق ظهور الشيء وتواتر الرواية به ، فإن حديث عائشة أيضا أولى ؛ لأن ذلك موجود فيه ، ومعدوم في حديث جابر .

                                                        وإن كان ذلك يؤخذ من طريق النظر ، فإنا قد رأينا الذين يذهبون إلى حديث جابر رضي الله عنه يقولون : ( إن الحرمة التي تجب على باعث الهدي بتقليده إياه وإشعاره ، فيحل عنه إذا حل الناس بغير فعل يفعله هو ، فيحل به ) .

                                                        [ ص: 267 ] فأردنا أن ننظر في الإحرام المتفق عليه ، هل هو كذلك أم لا ؟

                                                        فرأينا الرجل إذا أحرم بحج أو عمرة ، فقد صار محرما إحراما متفقا عليه ، ورأيناه غير خارج من ذلك الإحرام إلا بأفعال يفعلها ، فيحل بها منه ، ولا يحل بغيرها .

                                                        ألا ترى أنه إذا كان حاجا ، فلم يقف بعرفة ، حتى مضى وقتها ، أن الحج قد فاته ، ولا يحل إلا بفعل يفعله من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق أو التقصير .

                                                        ولو وقف بعرفة ، وفعل جميع ما يفعله الحاج ، غير الطواف الواجب ، لم يحل له النساء أبدا حتى يطوف الطواف الواجب .

                                                        وكذلك العمرة لا يحل منها أبدا إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق الذي يكون منه بعد ذلك .

                                                        فكانت هذه أحكام الإحرام المتفق عليه ، لا يخرجه منه مرور مدة ، وإنما يخرجه منه الأفعال .

                                                        وكان من أحرم بعمرة ، وساق الهدي وهو يريد التمتع ، فطاف لعمرته وسعى ، لم يحل حتى يفرغ من حجه وينحر الهدي .

                                                        فكانت هذه حرمة زائدة بسبب الهدي ؛ لأنه لولا الهدي ، لكان إذا طاف لعمرته وسعى ، حلق وحل له ، فإنما منعه من ذلك الهدي الذي ساقه ، ثم كان إحلاله من تلك الحرمة أيضا إنما يكون بفعل يفعله ، لا بمرور وقت .

                                                        فكان هذا الإحرام المتفق عليه لا يخرج منه بمرور الأوقات ولا بأفعال غيره ، ولكن بأفعال يفعلها هو .

                                                        وكأن من بعث بهدي ، وأقام في أهله ، وأمر أن يقلد ويشعر ، فوجب عليه بذلك التجريد ، في قول من يوجب ذلك ، يحل من تلك الحرمة ، لا بفعل يفعله ، ولكن في وقت ما يحل الناس .

                                                        فخالف ذلك الإحرام المتفق عليه ، فلم يجب ثبوته كذلك ؛ لأنه إنما يثبت الأشياء المختلف فيها إذا أشبهت الأشياء المجتمع عليها .

                                                        فإذا كانت غير مشبهة لها ، لم يثبت إلا أن يكون معها التوقيت الذي يقوم به الحجة ، فيجب القول بها لذلك .

                                                        فإذا وجب ذلك انتفى الاختلاف ، فثبت بما ذكرنا صحة قول من ذهب إلى حديث عائشة رضي الله عنها ، وفساد قول من خالف ذلك إلى حديث جابر بن عبد الله .

                                                        وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله تعالى .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية