الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5292 39 حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال قال: أتى علي رضي الله عنه على باب الرحبة، فشرب قائما، فقال: إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث يطابق الترجمة في الشرب قائما، ويوضح الحكم بأنه جائز، أخرجه عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر بكسر الميم، وسكون السين، وفتح العين المهملتين، وبالراء، ابن كدام الكوفي، عن عبد الله بن ميسرة -ضد الميمنة- الزراد بالزاي والراء والدال المهملتين، عن النزال بفتح النون وتشديد الزاي، ابن سبرة بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة وبالراء، وهؤلاء الثلاثة كلهم هلاليون كوفيون، وأبو نعيم أيضا كوفي، وعلي أيضا نزل الكوفة، ومات بها، والنزال تقدمت له رواية عن ابن مسعود في فضائل القرآن، وليس له في البخاري سوى هذين الحديثين.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه أبو داود أيضا في الأشربة عن مسدد، عن يحيى، وأخرجه الترمذي في الشمائل عن أبي كريب، وأخرجه النسائي في الطهارة عن عمرو بن يزيد الجرمي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (على باب الرحبة) أراد به رحبة مسجد الكوفة، وفي رواية شعبة: أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، والرحبة بفتحات المكان الواسع، والرحب بسكون الحاء أيضا المكان المتسع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أن يشرب) أي: بأن يشرب، وأن مصدرية، تقديره: يكره الشرب وهو قائم، أي: في حالة القيام.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فعل) أي: شرب قائما.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كما رأيتموني) أي: كرؤيتكم إياي (فعلت) أي شربت.

                                                                                                                                                                                  واعلم أن لفظ فعل أعم الأفعال يستعمل في معنى كل فعل، ولهذا عينه أهل الصرف في الأوزان، واعلم أنه قد وردت أحاديث بجواز الشرب قائما، ووردت أحاديث بمنعه.

                                                                                                                                                                                  فمن أحاديث الجواز حديث علي وحديث ابن عباس، رواهما البخاري هنا، وحديث ابن عمر رواه الترمذي من حديث نافع عنه، وقال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه، وابن حبان، وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه رواه الترمذي في الشمائل عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائما وإسناده حسن، وحديث عائشة أخرجه النسائي من حديث مسروق عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا.. الحديث.

                                                                                                                                                                                  وحديث أنس رواه أحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وقربة معلقة، فشرب من فم القربة، وهو قائم.. الحديث.

                                                                                                                                                                                  وحديث الحسين بن علي رويناه عن شيخنا زين الدين رحمه الله رواه في الجزء العاشر من فوائد أبي بكر الشافعي من رواية زياد بن المنذر، عن بشير بن غالب، عن حسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما.

                                                                                                                                                                                  وحديث خباب بن الأرت رويناه عن شيخنا، وهو يرويه عن مجاهد من حديث الطبراني عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فأصابنا العطش، وليس معنا ماء، فتنوخت ناقة لبعضنا، فإذا بين رجليها مثل السقاء، فشربنا من لبنها، فهذا من فعل الصحابة في زمنه، فيكون في حكم المرفوع.

                                                                                                                                                                                  وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رويناه عن شيخنا، وهو يروى من حديث سعيد بن جبير في المعجم الصغير للطبراني أنه قال: حدثني أبو هريرة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يشرب من زمزم قائما.

                                                                                                                                                                                  وحديث أم سليم رويناه عن شيخنا، وهو يروى من حديث أنس، عن أمه في مسند أحمد قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة، فشرب منها قائما.

                                                                                                                                                                                  وحديث كبشة أخرجه الترمذي، وابن ماجه عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من في قربة معلقة قائما.

                                                                                                                                                                                  وحديث كلثم رواه أبو موسى المديني في كتاب معرفة الصحابة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من قربة معلقة وهو قائم.

                                                                                                                                                                                  وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه عبد الرزاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب قائما وقاعدا.

                                                                                                                                                                                  وحديث عبد الله بن السائب بن خباب، عن أبيه، عن جده قال: [ ص: 193 ] رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام إلى فخارة فيها ماء فشرب قائما رواه أبو محمد بن أبي حاتم الرازي بسند صحيح.

                                                                                                                                                                                  ومن أحاديث المنع ما رواه الأثرم، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا: "لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء" وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقئ" وروى من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما. وروى أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما. وروى الترمذي من حديث الجارود بن المعلى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الشرب قائما وقال: هذا حديث حسن غريب.

                                                                                                                                                                                  واستدل أهل الظاهر بهذه الأحاديث على تحريم الشرب قائما، ثم كيفية الجمع بينهما على أقوال:

                                                                                                                                                                                  أحدها: أن النهي محمول على التنزيه لا على التحريم وهو الذي صار إليه الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه كالخطابي، وأبي محمد البغوي وأبي عبد الله المازري، والقاضي عياض وأبي العباس القرطبي، وأبي زكريا النووي رحمهم الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن المراد بالقائم هنا الماشي; لأن الماشي يسمى قائما قال الله عز وجل: إلا ما دمت عليه قائما أي: مواظبا بالمشي إليه، والعرب تقول: قم في حاجتنا أي: امش فيها، قاله ابن التين.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أنه محمول على أن يأتي الرجل أصحابه بشراب فيبدأ قبل أصحابه فيشرب قائما، ذكره أبو الوليد الباجي والمازري.

                                                                                                                                                                                  الرابع: تضعيف أحاديث النهي عن الشرب قائما، قاله جماعة من المالكية، منهم أبو عمر بن عبد البر، وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أن أحاديث النهي منسوخة، قاله أبو حفص بن شاهين، وابن حبان في صحيحه.

                                                                                                                                                                                  السادس: ما قاله ابن حزم أن أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الشرب قائما، وقال النووي في شرح مسلم: الصواب أن النهي محمول على كراهة التنزيه. وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائما فبيانه للجواز، فلا إشكال ولا تعارض، قال: وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه. قال: وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط غلطا فاحشا، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وأنى له بذلك، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  قلت: جزم النووي هنا بالكراهة، وخالف ذلك في الروضة تبعا للرافعي فقال: إن الشرب قائما ليس بمكروه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية