الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6150 102 - حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده غدوة وعشيا ، إما النار وإما الجنة ، فيقال : هذا مقعدك حتى تبعث .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  تؤخذ مطابقته للترجمة من قوله : " إذا مات " لأن الذي يموت لا بد له من سكرة الموت . وأبو النعمان : محمد بن الفضل السدوسي البصري ، يقال له عارم ، وأيوب : هو السختياني ، والحديث من أفراده .

                                                                                                                                                                                  قوله : " عرض عليه مقعده " كذا في رواية الأكثرين ، وفي رواية السرخسي والمستملي " عرض على مقعده " ، والأول هو الأصل والثاني من باب القلب ، نحو : عرض الناقة على الحوض . قوله : " غدوة وعشيا " أي : أول النهار وآخره بالنسبة إلى أهل الدنيا ، والذي يعرض على المؤمن مقعدان يراهما جميعا ، وفائدة العرض للمؤمن نوع من الفرح وللكافر نوع من العذاب ، والعرض على الروح حقيقة ، وعلى ما يتصل به من البدن الاتصال الذي يمكن به إدراك التنعيم أو التعذيب ، وقال ابن بطال حاكيا عن غيره : إن المراد بالعرض هنا الإخبار بأن هذا موضع جزائكم على أعمالكم عند الله ، لأن العرض لا يقع على شيء فان ، فالعرض الذي يدوم إلى يوم القيامة هو العرض الذي على الأرواح خاصة ، واعترض عليه بأن حمل العرض على الإخبار عدول عن الظاهر بغير مقتضى لذلك ، فلا يجوز العدول إلا بصارف يصرفه عن الظاهر ، انتهى . قلت : فيه نظر ، لأن الأبدان تفنى والذي يفنى حكمه حكم المعدم ، ولا يتصور العرض على المعدوم .

                                                                                                                                                                                  وقوله : " عدول عن الظاهر بغير مقتضى " غير مسلم ، لأن الحكم بالظاهر متعذر ، والصارف عن الظاهر موجود وهو امتناع العرض على المعدوم ، وقال بعضهم : يؤيد الحمل على الظاهر أن الخبر ورد على العموم في المؤمن والكافر ، فلو اختص العرض بالروح لم يكن للشهيد في ذلك كثير فائدة لأن روحه منعمة جزما كما في الأحاديث الصحيحة ، وكذا روح الكافر معذبة في النار جزما ، فإذا حمل على الروح التي لها اتصال بالبدن ظهرت فائدة ذلك في حق الشهيد وفي حق الكافر أيضا ، انتهى . قلت : كون عموم الخبر يؤيد الحمل على الظاهر ، غير مسلم لما ذكرنا ، ثم تقوية ذلك بقوله فلو اختص [ ص: 98 ] العرض بالروح إلى آخره غير مسلم أيضا ، لأن العرض في حق الشهيد زيادة فرح وسرور ، وفي حق الكافر زيادة جزع وتحسر ، ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي الدنيا والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في فتنة السؤال في القبر وفيه " ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له : هذا مقعدك وما أعده الله لك فيها ، فيزاد غبطة وسرورا ، ثم يفتح له باب من أبواب النار ، فيقال له : هذا مقعدك وما أعده الله لك فيها لو عصيته ، فيزداد غبطة وسرورا " الحديث ، وفيه في حق الكافر " ثم يفتح له باب من أبواب النار " وفيه " فيزداد حسرة وثبورا " في الموضعين ، وفيه " لو أطعته " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " إما النار وإما الجنة " ، قيل : كلمة " إما " التفصيلية تمنع الجمع بينهما ، وأجيب بأنه قد يكون لمنع الخلو عنهما ، فإن قلت : هذا العرض للمؤمن المتقي والكافر ظاهر ، فكيف الأمر في المؤمن المخلص . قلت : يحتمل أن يعرض عليه مقعده من الجنة التي سيصير إليها ، فإن قلت : ما فائدة التكرار في العرض ؟ قلت : فائدته تذكارهم بذلك . قوله : " حتى تبعث إليه " وفي رواية الكشميهني " حتى تبعث عليه " وفي طريق مالك " حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " . وقال الكرماني : ما معنى الغاية التي في " حتى تبعث " ؟ ثم أجاب بقوله : معناها أنه يرى بعد البعث من عند الله كرامة ينسى عندها هذا المقعد ، وقال الكرماني أيضا : وفيه إثبات عذاب القبر ، والأصح أنه للجسد ولا بد من إعادة الروح فيه ، لأن الألم لا يكون إلا للحي . قلت : إثبات عذاب القبر لا نزاع فيه ، وأما قوله : والأصح أنه للجسد ، فغير مسلم ، لأن الجسد يفنى وتعذيب الذي فني غير متصور ، وأما قوله : ولا بد من إعادة الروح فيه ، ففيه اختلاف ، هل تعود الروح فيه حقيقة أو تقرب من البدن بحسب ما يعذب البدن بواسطة أو بغير ذلك ، فحقيقة ذلك عند الله ، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلا بالنائم ، فإن روحه تتنعم أو تعذب ، والجسد لا يحس بشيء من ذلك ، واعلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ويعرض عليه مقعدها غدوة وعشيا ، وأرواح الكفار في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين ، فذلك عرضها ، وقد قيل : إن أرواحهم في صخرة سوداء تحت الأرض السابعة على شفير جهنم ، في حواصل طيور سود .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية