الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  211 77 - حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن عامر قال : سمعت أنسا ح . قال : وحدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان قال : حدثني عمرو بن عامر ، عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قلت : كيف كنتم تصنعون؟ قال : يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم ستة . وللحديث إسنادان : أحدهما : عن محمد بن يوسف الفريابي ، مر في باب لا يمسك ذكره بيمينه ، عن سفيان الثوري ، تقدم في باب علامة المنافق ، عن عمرو بالواو ، ابن عامر الأنصاري الثقة الصالح ، روى له الجماعة ، عن أنس بن مالك ، والآخر : عن مسدد بن مسرهد ، تكرر ذكره عن يحيى القطان ، مر ذكره ، وهذا تحويل من إسناد إلى إسناد آخر ، وفي بعض النسخ بعد قوله "سمعت أنسا " صورة ح ، وهو إشارة إلى التحويل أو إلى الحائل أو إلى صح أو إلى الحديث ، وقد مر تحقيقه .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن في الإسناد الأول التحديث بصيغة الجمع ، والعنعنة ، والسماع ، وفي الثاني التحديث بصيغة الجمع ، والتحديث بصيغة الإفراد ، والعنعنة .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن في الإسناد الأول بين البخاري ، وبين سفيان رجلا ، وفي الثاني بينهما رجلان .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن في الإسناد الثاني صرح بسماع سفيان عن عمرو ، حيث قال : حدثني عمرو ، وفي الأول قال : عن عمرو ، وسفيان من المدلسين ، والمدلس لا يحتج بعنعنته ، إلا أن يثبت سماعه من طريق آخر .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن رواته ما بين فريابي ، وكوفي ، وبصري .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن الإسناد الأول عال ، والثاني نازل ، وذلك بكون سفيان الثوري أتى بالحديث عن عمرو ، وإنما قلنا : إنه هو الثوري ; لأنا لم نجد لسفيان بن عيينة ، عن عمرو رواية .

                                                                                                                                                                                  بيان من أخرجه غيره :

                                                                                                                                                                                  أخرجه الترمذي في الطهارة ، عن ابن بشار ، عن يحيى وعبد الرحمن ، كلاهما عن سفيان به . وقال : صحيح .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي فيه ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد ، عن شعبة عنه بمعناه .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن ماجه فيه ، عن سويد بن سعيد ، عن شريك نحوه .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي من حديث سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن حميد ، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة ، طاهرا كان أو غير طاهر . قال : قلت لأنس : كيف كنتم تصنعون . . الحديث .

                                                                                                                                                                                  وقال : حديث حميد عن أنس غريب من هذا الوجه ، والمشهور عند أهل العلم حديث عمرو .

                                                                                                                                                                                  وفي ( العلل ) قال الترمذي : سألت محمدا ، يعني البخاري عن هذا الحديث ، فقال : لا أدري ما سلمة هذا ، ولم يعرف محمد هذا من حديث حميد .

                                                                                                                                                                                  بيان المعنى ، والإعراب :

                                                                                                                                                                                  قوله ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ) هذه العبارة تدل على أنه كان عادة له .

                                                                                                                                                                                  قوله ( عند كل صلاة ) أراد بها الصلاة المفروضة من الأوقات الخمسة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قلت : كيف تصنعون . . ) الحديث ، القائل عمرو بن عامر ، والخطاب للصحابة رضي الله عنهم ، وكلمة "كيف" يسأل بها عن الحال .

                                                                                                                                                                                  قوله ( يجزئ ) بضم الياء آخر الحروف ، أي يكفي من أجزأني الشيء ، أي كفاني ، وفي رواية الإسماعيلي : يكتفى ، وفاعله "الوضوء" بالرفع .

                                                                                                                                                                                  وقوله ( أحدنا ) منصوب ; لأنه مفعول يجزئ .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : اختلفوا في هذا الباب ، فذهبت طائفة من الظاهرية والشيعة إلى وجوب الوضوء لكل صلاة في حق المقيمين دون المسافرين ، واحتجوا في ذلك بحديث بريدة بن الحصيب : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد . أخرجه الطحاوي ، وابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، وأخرجه مسلم ، وأبو داود عنه ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد [ ص: 113 ] . . الحديث ، وذهبت طائفة إلى أن الوضوء واجب لكل صلاة مطلقا من غير حدث . وروي ذلك عن ابن عمر ، وأبي موسى ، وجابر بن عبد الله ، وعبيدة السلماني ، وأبي العالية ، وسعيد بن المسيب ، وإبراهيم ، والحسن .

                                                                                                                                                                                  وحكى ابن حزم في ( كتاب الإجماع ) هذا المذهب عن عمرو بن عبيد ، قال : وروينا عن إبراهيم النخعي : أنه لا يصلى بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات ، ومذهب أكثر العلماء من الأئمة الأربعة ، وأكثر أصحاب الحديث ، وغيرهم : أن الوضوء لا يجب إلا من حدث ، وقالوا : لأن آية الوضوء نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة ; لأن معنى قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وأنتم محدثون ، واستدل الدارمي على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : لا وضوء إلا من حدث ، وحكى الشافعي عمن لقيه من أهل العلم أن التقدير : إذا قمتم من النوم .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ظاهر الآية يقتضي التكرار ; لأن الحكم المذكور ، وهو قوله : فاغسلوا معلق بالشرط ، وهو إذا قمتم إلى الصلاة فيقتضي تكرار الحكم عند تكرار الشرط كما هو القاعدة عندهم .

                                                                                                                                                                                  قلت : المسألة مختلف فيها ، والأكثرون على أنه لا يقتضيه لفظا .

                                                                                                                                                                                  وقال الزمخشري رحمه الله تعالى : فإن قلت : ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة ، محدث وغير محدث ، فما وجهه ؟ قلت : يحتمل أن يكون الأمر للوجوب ، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة ، وأن يكون للندب .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم ، لهؤلاء على وجه الإيجاب ، ولهؤلاء على وجه الندب ؟ قلت : لا ; لأن تناول الكلمة الواحدة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والعمية .

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي رحمه الله تعالى : قد يجوز أن يكون وضوءه عليه الصلاة والسلام لكل صلاة ، على ما روى بريدة ، كان ذلك على التماس الفضل لا على الوجوب ، والدليل على ذلك ما رواه الطحاوي ، وابن أبي شيبة من حديث أبي عطيف الهذلي ، قال : صليت مع عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما الظهر ، فانصرف في مجلس في داره ، فانصرفت معه حتى إذا نودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ ، فقلت له : أي شيء هذا يا أبا عبد الرحمن ، الوضوء عند كل صلاة ؟ فقال : وقد فطنت لهذا مني ، ليست بسنة ، إن كان لكافيا وضوئي لصلاة الصبح وصلواتي كلها ما لم أحدث ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من توضأ على طهر كتب الله له بذلك عشر حسنات . ففي ذلك رغبت يا ابن أخي .

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي : وقد روي عن أنس بن مالك ما يدل على ما ذكرنا ، يعني اكتفاء المصلي بوضوء واحد لصلوات كثيرة ما لم يحدث ، وذلك لأنه قد علم حكم ما ذكرنا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير ذلك فرضا ، بل كان ذلك لإصابة الفضل ، وإلا لما كان وسعه ولا لغيره أن يخالفوه .

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي أيضا : ويجوز أن يكون ذلك فرضا أولا ، ثم نسخ ، ثم استدل على ذلك بحديث أسماء بنة زيد بن الخطاب بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ، حدثها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة ، طاهرا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة ، فهذا دل على النسخ .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية ابن خزيمة في ( صحيحه ) : فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث ، ويقال في الجواب : يحتمل أن يكون ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن شاهين : لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة والتابعين كانوا يتعمدون الوضوء لكل صلاة إلا ابن عمر ، وفيه نظر ; لأنه روى ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . وفي لفظ : كان أبو بكر ، وعمر ، وعثمان يتوضئون لكل صلاة .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : يمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب ، وفي حق غيرهم للندب .

                                                                                                                                                                                  قلت : هذا لا يصح ; لما ذكرنا عن قريب أنه على هذا يكون من باب الإلغاز ، فلا يجوز .

                                                                                                                                                                                  الثاني من الأحكام : فيه دلالة على فضيلة الوضوء لكل صلاة وحدها .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يجوز الاكتفاء بوضوء واحد ما لم يحدث .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه دلالة على وجوب الوضوء عند الحدث لمن يريد الصلاة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية