الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  159 27 - حدثنا عبدان ، قال: أخبرنا عبد الله ، قال: أخبرنا يونس ، عن الزهري ، قال: أخبرني أبو إدريس ، أنه سمع أبا هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث في قوله: "من توضأ فليستنثر".

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم ستة: الأول عبدان هو لقب ابن عبد الله بن عثمان المروزي، الثاني عبد الله بن المبارك، الثالث يونس بن يزيد الأيلي، الرابع محمد بن مسلم الزهري، الخامس أبو إدريس عائذ الله بالهمزة والذال المعجمة ابن عبد الله الخولاني بالمعجمة، التابعي الجليل القدر الكبير الشأن، كان قاضيا بدمشق لمعاوية، مات سنة ثمانين. السادس أبو هريرة رضي الله تعالى عنه. فالأربعة الأول تقدم ذكرهم بهذا الترتيب في كتاب الوحي، وأبو إدريس مر ذكره في كتاب الإيمان.

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار بصيغة الجمع والإفراد والسماع، ومنها أن رواته ما بين مروزي وأيلي ومدني وشامي، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي الزهري عن أبي إدريس .

                                                                                                                                                                                  ( بيان من أخرجه غيره ): أخرجه مسلم أيضا في الطهارة عن يحيى بن يحيى عن مالك عن الزهري به ، وعن سعيد بن منصور عن حسان بن إبراهيم وعن حرملة بن يحيى عن ابن وهب كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن أبي هريرة وأبي سعيد كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة، وعن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، وابن ماجه أيضا فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب وداود بن عبد الله الجعفري، أربعتهم عن مالك به. وقال ابن الفلكي: رواه كامل بن طلحة الجحدري، عن مالك، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة الخشني، قال أبو أحمد الحافظ: إن كاملا أخطأ فيه.

                                                                                                                                                                                  ( بيان إعرابه ومعناه ) قوله: "من توضأ" كلمة من موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله: "فليستنثر" جواب الشرط، فلذلك دخلته الفاء، وكذلك قوله: "ومن استجمر فليوتر". قوله: "فليستنثر" أي فليخرج الماء من الأنف بعد الاستنشاق مع ما في الأنف من مخاط وغبار وشبهه، قيل ذلك لما فيه من المعونة على القراءة، وتنقية مجرى النفس الذي به التلاوة، وبإزالة ما فيه من التفل تصح مجاري الحروف، ويقال: الحكمة فيه التنظيف وطرد الشيطان; لأنه روي في رواية عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة أخرجها البخاري في بدء الخلق: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستنثر ثلاثا; فإن الشيطان يبيت على خيشومه".

                                                                                                                                                                                  قوله: "ومن استجمر" من الاستجمار وهو مسح محل البول والغائط بالجمار وهي الأحجار الصغار، ويقال: [ ص: 15 ] الاستطابة والاستجمار والاستنجاء لتطهير محل الغائط والبول، والاستجمار مختص بالمسح بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء وبالأحجار، وقال ابن حبيب : وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يتأول الاستجمار هنا على إجمار الثياب بالمجمر، ونحن نستحب الوتر في الوجهين جميعا، يقال: في هذا تجمر واستجمر فيأخذ ثلاث قطع من الطيب أو يتطيب مرة واحدة لما بعد الأولى.

                                                                                                                                                                                  وحكي عن مالك أيضا والأظهر الأول ويقال: إنما سمي به التمسح بالجمار التي هي الأحجار الصغار; لأنه يطيب المحل كما يطيبه الاستجمار بالبخور، ومنه سميت جمار الحج وهي الحصيات التي يرمى بها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فليوتر" أي فليجعل الحجارة التي يستنجي بها وترا إما واحدة أو ثلاثا أو خمسا، وقال الكرماني : المراد بالإيتار أن يكون عدد المسحات ثلاثا أو خمسا أو فوق ذلك من الأوتار. قلت: لم يذكر الواحد مع أنه يطلق عليه الإيتار هروبا عن أن لا يكون الحديث حجة عليهم على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) الأول: فيه مطلوبية الاستنثار في الوضوء، والإجماع قائم على عدم وجوبه، والمستحب أن يستنثر بيده اليسرى وقد بوب عليه النسائي، ويكره أن يكون بغير يده حكي ذلك عن مالك أيضا; لكونه يشبه فعل الدابة. وقيل: لا يكره. فإن قلت: السنة في الاستنثار ثلاث مثل الاستنشاق أم لا؟ قلت: قد ورد في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان، عن أبي الزناد ولفظه: "إذا استنثر فليستنثر وترا". وقوله: "وترا" يشمل الواحد والثلاث وما فوقهما من الأوتار، وورد في رواية البخاري : "فليستنثر ثلاثا" كما ذكرناها.

                                                                                                                                                                                  ويمكن أن تكون هذه الرواية مبينة لتلك الرواية فتكون السنة فيه أن تكون ثلاثا كالاستنشاق فافهم.

                                                                                                                                                                                  الثاني من فسر الاستنثار بالاستنشاق ادعى أن الاستنشاق واجب، وقال النووي : فيه دلالة لمذهب من يقول: إن الاستنشاق واجب لمطلق الأمر. ومن لم يوجبه يحمل الأمر على الندب بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الاستنثار ليس بواجب بالاتفاق، وقال ابن بطال: الاستنثار هو دفع الماء الحاصل في الأنف بالاستنشاق، ولم يذكر هاهنا الاستنشاق; لأن ذكره الاستنثار دليل عليه إذ لا يكون إلا منه.

                                                                                                                                                                                  وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر الحديث، وحمله أكثرهم على الندب، واستدلوا بأن غسله باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء. قلت: الذين أوجبوا الاستنشاق هم أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، واحتجوا بظاهر الأمر، ولكنه للندب عند الجمهور بدليل ما رواه الترمذي محسنا والحاكم مصححا من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: " توضأ كما أمرك الله تعالى " فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء فقد أمر الله تعالى باتباع نبيه، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهذا يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بها أيضا في سنن أبي داود بإسناد صحيح. قلت: القرينة الحالية والمقالية ناطقة صريحة بأن المراد من قوله: "كما أمرك الله تعالى" الأمر المذكور في آية الوضوء، وليس فيها ما يدل على وجوب الاستنشاق ولا على المضمضة، فإن استدل هذا القائل على وجوبها بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما من غير ترك فإنه يلزمه أن يقول بوجوب التسمية أيضا; لأنه لم ينقل أنه ترك التسمية فيه، ومع هذا فهي سنة أو مستحبة عند إمام هذا القائل.

                                                                                                                                                                                  الثالث فيه مطلوبية الإيتار في الاستنجاء قال الكرماني : مذهبنا أن استيفاء الثلاث واجب، فإن حصل الإنقاء به فلا زيادة وإلا وجبت الزيادة ، ثم إن حصل بوتر فلا زيادة، وإن حصل بشفع استحب الإيتار. وقال الخطابي : فيه دليل على وجوب عدد الثلاث; إذ معلوم أنه لم يرد به الوتر الذي هو واحد لأنه زيادة صفة على الاسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد، فعلم أنه إنما قصد به ما زاد على الواحد وأدناه الثلاث قلت: ظاهر الحديث حجة لأبي حنيفة وأصحابه فيما ذهبوا إليه من أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون; لأن الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث والحديث دال على الإيتار فقط، فإن قلت: تعيين الثلاث من نهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار.

                                                                                                                                                                                  قلت: لما دل حديث أبي هريرة : "من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج". على عدم اشتراط التعيين حمل هذا على أن النهي فيه كان لأجل الاحتياط; لأن التطهير غالبا إنما يحصل بالثلاث، ونحن أيضا نقول: إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث يتعين عليه الثلاث، والتعيين ليس لأجل التوفية فيه، وإنما هو للإنقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع وخامس وهلم جرا يتعين عليه ذلك فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية