الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  287 42 - حدثنا معاذ بن فضالة ، قال : حدثنا هشام ح وحدثنا أبو نعيم ، عن هشام ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثم جهدها فقد وجب الغسل .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله : ثم جهدها ; لأنه روى : " وألزق الختان بالختان " بدل قوله : " ثم جهدها " على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله : وهم سبعة ; لأنه رواه من طريقين : الأول عن معاذ بن فضالة بضم الميم في معاذ ، وفتح الفاء في فضالة البصري عن هشام الدستوائي ، عن قتادة بن دعامة المفسر ، عن الحسن البصري ، عن أبي رافع ، نفيع الصائغ . والطريق الثاني عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن هشام ... الخ . وعلم على الطريقين بصورة ( ح ) بين الإسنادين من التحويل .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع . وفيه : العنعنة في ستة مواضع . وفيه : أن رواته كلهم بصريون .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر من أخرجه غيره ) أخرجه مسلم في الطهارة عن أبي خيثمة زهير بن حرب ، وأبي غسان المسمعي وابن المثنى وابن بشار ، أربعتهم عن معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن الحسن ، به . وعن محمد بن عمرو ، عن ابن أبي عدي ، وعن ابن المثنى ، عن وهب بن جرير ، كلاهما عن شعبة به . وأخرجه أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم ، عن هشام وشعبة ، كلاهما عن قتادة . وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد بن الحارث ، عن شعبة به . وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 247 ] ( ذكر لغاته ) قوله : " بين شعبها " بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة ، جمع شعبة ، ويروى : أشعبها جمع شعب ، وقال ابن الأثير : الشعبة الطائفة من كل شيء ، والقطعة منه ، والشعب النواحي ، واختلفوا في المراد بالشعب الأربع ، فقيل : هي اليدان والرجلان ، وقيل : الفخذان والرجلان ، وقيل : الرجلان والشفران ، واختار القاضي عياض أن المراد من الشعب الأربع نواحيها الأربع ، والأقرب أن يكون المراد اليدين والرجلين ، أو الرجلين والفخذين ، ويكون الجماع مكنيا عنه بذلك ، يكتفى بما ذكر عن التصريح ، وإنما رجح هذا ; لأنه أقرب إلى الحقيقة في الجلوس بينهما ، والضمير في جلس يرجع إلى الرجل ، وكذلك الضمير المرفوع في جهدها ، وأما الضمير الذي في شعبها والضمير المنصوب في جهدها فيرجعان إلى المرأة وإن لم يمض ذكرها لدلالة السياق عليه كما في قوله تعالى : حتى توارت بالحجاب قوله : " ثم جهدها " بفتح الجيم والهاء ، أي : بلغ جهده فيها ، وقيل : بلغ مشقتها . يقال : جهدته وأجهدته إذا بلغت مشقته ، وقيل : معناه كدها بحركته ، وفي رواية مسلم من طريق شعبة وهشام عن قتادة ، ثم اجتهد ورواه أبو داود من طريق شعبة وهشام معا ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قعد بين شعبها الأربع ، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل ، أي : موضع الختان بموضع الختان ; لأن الختان اسم للفعل ، وهذا يدل على أن الجهد هاهنا كناية عن معالجة الإيلاج ، وفي رواية البيهقي من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل . وروي أيضا بهذا اللفظ من حديث عائشة ، أخرجه الشافعي من طريق سعيد بن المسيب عنها ، ولكن في طريقه علي بن زيد ، وهو ضعيف ، ورواه ابن ماجه من طريق القاسم بن محمد عنها برجال ثقات ، ورواه مسلم من طريق أبي موسى الأشعري عنها ، ولفظه : ومس الختان الختان ، والمراد بالمس الالتقاء ، دل عليه رواية الترمذي بلفظ : إذا جاوز ، وليس المراد حقيقة المس حتى لو حصل المس بدون التقاء الختانين لا يجب الغسل بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                  والحاصل أن إيجاب الغسل لا يتوقف على نزول المني ، بل متى غابت الحشفة في الفرج وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل ، يدل عليه رواية مسلم من طريق مطر الوراق عن الحسن في آخر هذا الحديث وإن لم ينزل ، ووقع ذلك في رواية قتادة أيضا ، رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن عفان ، قال : حدثنا همام وأبان ، قالا : أخبرنا قتادة به . وزاد في آخره : أنزل أو لم ينزل . وكذا رواه الدارقطني ، وصححه من طريق علي بن سهل عن عفان ، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن قتادة ، وقيل : الجهد من أسماء النكاح ، فمعنى جهدها جامعها ، وإنما عدل إلى الكناية للاجتناب عن التفوه بما يفحش ذكره صريحا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر استنباط الحكم منه ) يستنبط من الحديث المذكور أن إيجاب الغسل لا يتوقف على نزول المني ، بل متى غابت الحشفة يجب الغسل عليهما وإن لم ينزلا ، وهذا لا خلاف فيه اليوم ، وقد كان الخلاف فيه في الصدر الأول ، فإن جماعة ذهبوا إلى أن من وطئ في الفرج ولم ينزل فليس عليه غسل ، واحتجوا في ذلك بأحاديث نذكرها الآن ، وفي ( المحلى ) ، وممن رأى أن لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن إنزال : عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، ورافع بن خديج ، وأبو سعيد الخدري ، وأبي بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري ، وابن عباس ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، وجمهرة الأنصار رضي الله تعالى عنهم ، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وهشام بن عروة ، والأعمش ، وبه قالت الظاهرية .

                                                                                                                                                                                  ومن الآثار التي احتجوا بها ما رواه البخاري من حديث زيد بن خالد رضي الله تعالى عنه على ما يجيء في الباب الآتي . وأخرجه مسلم أيضا والطحاوي ، وأخرجه البزار أيضا ، ولفظه : عن زيد الجهني ، أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع ولا ينزل ، فقال : ليس عليه إلا الوضوء . وقال عثمان : أشهد أني سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها حديث أبي بن كعب ، رواه مسلم ، حدثنا أبو الربيع الأنصاري ، حدثنا حماد ، عن هشام بن عروة . وحدثنا أبو كريب واللفظ له ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن أبي أيوب ، عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة ، ثم يكسل ، فقال : يغسل ما أصابه من المرأة ، ثم يتوضأ . وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وأحمد والطحاوي .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أبي سعيد الخدري ، أخرجه البخاري ومسلم عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار ، فأرسل إليه فخرج ورأسه يقطر ، فقال : لعلنا أعجلناك ، فقال : نعم يا رسول الله ، قال إذا [ ص: 248 ] أعجلت أو قحطت فلا غسل عليك وعليك الوضوء . أخرجه الطحاوي ، وأخرج الطحاوي أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : قلت لإخواني من الأنصار : اتركوا الأمر كما يقولون : الماء من الماء ، أرأيتم إن اغتسل ، فقالوا : لا والله حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله ، وأخرج أبو العباس السراج أيضا في ( مسنده ) : حدثنا روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، أن ابن عباس أخبره ، أن أبا سعيد الخدري كان ينزل في داره ، وأن أبا سعيد أخبره ، أنه كان يقول لأصحابه : أرأيتم إذا اغتسلت وأنا أعرف أنه كما تقولون : قالوا : لا ، حتى لا يكون في نفسك حرج مما قضى الله ورسوله في الرجل يأتي امرأته ولا ينزل . وأخرج مسلم أيضا عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الماء من الماء .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أبي أيوب ، أخرجه ابن ماجه والطحاوي عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الماء من الماء .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أبي هريرة : أخرجه الطحاوي عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار فأبطأ ، فقال : ما حبسك ؟ قال : كنت أصبت من أهلي ، فلما جاءني رسولك اغتسلت من غير أن أحدث شيئا ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء من الماء ، والغسل على من أنزل .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عتبان الأنصاري ، رواه أحمد عنه أن عتبان الأنصاري قال : قلت : يا نبي الله ، إني كنت مع أهلي ، فلما سمعت صوتك أقلعت فاغتسلت ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الماء من الماء .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث رافع بن خديج ، أخرجه الطبراني وأحمد عنه : ناداني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل فاغتسلت ، فأخبرته أنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أمن فاغتسلت ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا عليه ، الماء من الماء .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عبد الرحمن بن عوف ، أخرجه أبو يعلى عنه قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب رجل من الأنصار ، فدعاه فخرج الأنصاري ورأسه يقطر ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لرأسك ؟ فقال : دعوتني وأنا مع أهلي فخفت أن أحتبس عليك ، فعجلت فقمت وصببت علي الماء ، ثم خرجت ، فقال : هل كنت أنزلت ؟ قال : لا . قال : إذا فعلت ذلك فلا تغتسلن ، اغسل ما مس المرأة منك وتوضأ وضوءك للصلاة ; فإن الماء من الماء . وأخرجه البزار أيضا .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عبد الله بن عباس ، أخرجه البزار عنه قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل من الأنصار فأبطأ عليه ، فقال : ما حبسك قال : كنت حين أتاني رسولك على امرأتي فقمت فاغتسلت ، فقال : وكان عليك أن لا تغتسل ما لم تنزل . قال : فكان الأنصار يفعلون ذلك .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عبد الله بن عبد الله بن عقيل ، أخرجه معمر بن راشد في جامعه عنه قال : سلم النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة ، فلم يأذن له كان على حاجته ، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد سريعا ، فاغتسل ، ثم تبعه ، فقال : يا رسول الله ، إني كنت على حاجة فقمت فاغتسلت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الماء من الماء .

                                                                                                                                                                                  وحجة الجمهور حديث الباب ، وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل ، فقالت : فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا منه جميعا . أخرجه الطحاوي . وأخرجه الترمذي أيضا ، ولفظه : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا . وقال : هذا حديث حسن صحيح . وأخرجه ابن ماجه أيضا ، وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ، أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ، فقال : لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به . فقالت : ما هو ؟ ما كنت سائلا عنه أمك فاسألني عنه ، فقال لها : الرجل يصيب أهله فيكسل ولا ينزل ؟ قالت : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ، فقال أبو موسى : لا أسأل أحدا عن هذا بعدك أبدا . ورواه الشافعي أيضا عن مالك . وأخرجه البيهقي من طريقه ، وقال الإمام أحمد : هذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف على عائشة رضي الله تعالى عنها . وقال أبو عمر : هذا الحديث موقوف في الموطأ عند جماعة من رواته ، وروى موسى بن طارق وأبو قرة عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي موسى ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا التقى الخاتنان وجب الغسل . ولم يتابع على رفعه عن مالك ، وأخرج الطحاوي أيضا عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أخبرتني أم كلثوم ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ، ثم يكسل : هل عليه من غسل ؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأفعل ذلك أنا وهذه ، ثم نغتسل . قالوا : فهذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل إذا جامع وإن لم ينزل .

                                                                                                                                                                                  وقالت الطائفة الأولى : هذه الآثار تخبر عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه ، يعني كان يفعله بطريق الاستحباب لا بطريق الوجوب ، فلا يتم الاستدلال بها ، والآثار [ ص: 249 ] الأول : تخبر عما يجب وما لا يجب ، فهي أولى ، وأجاب الجمهور عن هذه أن هذه الآثار على نوعين أحدهما : الماء من الماء لا غير ، فهذا ابن عباس قد روي عنه أنه قال : مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يكون هذا في الاحتلام ، وأخرج الترمذي عن علي بن حجر ، عن شريك ، عن أبي الحجاف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما الماء من الماء في الاحتلام ، يعني إذا رأى أنه يجامع ، ثم لم ينزل فلا غسل عليه ، والنوع الآخر الذي فيه الأمر ، وأخبر فيه بالقصة ، وأنه لا غسل في ذلك حتى يكون الماء قد جاء خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه المذكور في الباب ، وهذا ناسخ لتلك الآثار ، فإن قلت : ليس فيه دليل على النسخ لعدم التعرض إلى شيء من التاريخ . قلت : قد جاء ما يدل على النسخ صريحا ، وهو ما روى أبو داود في ( سننه ) : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو - يعني ابن الحارث - عن ابن شهاب ، قال : حدثني بعض من أرضى ، أن سهل بن سعد الساعدي ، أخبره أن أبي بن كعب أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثبات ، ثم أمرنا بالغسل ونهى عن ذلك . قال أبو داود : يعني الماء من الماء . وأخرجه الطحاوي أيضا وأخرج أبو داود أيضا : حدثنا محمد بن مهران الرازي ، قال : حدثنا مبشر الحلبي ، عن محمد بن غسان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : حدثني أبي بن كعب ، أن الفتيا التي كانوا يفتون : إن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بدء الإسلام ، ثم أمرنا بالاغتسال بعد . وأخرجه ابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . فإن قلت : في الحديث الأول مجهول ، وهو قوله : حدثني بعض من أرضى . قلت : الظاهر أنه أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج ; لأن البيهقي روى هذا الحديث ، ثم قال : رويناه بإسناد آخر موصول عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد . والحديث محفوظ عن سهل ، عن أبي بن كعب ، كما أخرجه أبو داود ، وقال ابن عبد البر في ( الاستذكار ) : إنما رواه ابن شهاب عن أبي حازم ، وهو حديث صحيح ثابت بنقل العدول له ، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه قال : حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن زيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن أبي حية مولى ابنة صفوان ، عن عبيد بن رفاعة بن رافع ، عن أبيه رفاعة بن رافع ، قال : بينا أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذ دخل عليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة ، فقال عمر : علي به ، فجاء زيد ، فلما رآه عمر قال : أي عدو نفسه ، قد بلغت أنك تفتي الناس برأيك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بالله ما فعلت ، لكني سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به من أبي أيوب ، ومن أبي بن كعب ، ومن رفاعة بن رافع ، فأقبل عمر على رفاعة بن رافع ، فقال : وقد كنتم تفعلون ذلك ; إذا أصاب أحدكم من المرأة فأكسل لم يغتسل ، فقال : قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فلم يأتنا فيه تحريم ، ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نهي . قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك ؟ قال : لا أدري ، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا له فشاورهم ، فأشار الناس أن لا غسل في ذلك إلا ما كان من معاذ وعلي رضي الله تعالى عنهما ; فإنهما قالا : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل . فقال عمر رضي الله تعالى عنه : هذا وأنتم أصحاب بدر ، وقد اختلفتم ، فمن بعدكم أشد اختلافا . قال : فقال علي رضي الله تعالى عنه : يا أمير المؤمنين ; إنه ليس أحد أعلم بهذا ممن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ، فأرسل إلى حفصة فقالت : لا علم إلي بهذا ، فأرسل إلى عائشة ، فقالت : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا . ورواه الطحاوي أيضا فيه : لا أعلم أحدا فعله ، ثم لم يغتسل إلا جعلته نكالا . ولم يتقن الكلام أحد في هذا الباب مثل الإمام الحافظ أبي جعفر الطحاوي ، فإن أراد أحد أن يتقنه فعليه بكتابه ( معاني الآثار ) وشرحنا الذي عملناه عليه المسمى بمباني الأخبار .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ادعى بعضهم أن التنصيص على الشيء باسمه العلم يوجب نفي الحكم عما عداه ; لأن الأنصار فهموا عدم وجوب الاغتسال بالإكسال من قوله صلى الله عليه وسلم : الماء من الماء ، أي : الاغتسال واجب بالمني ، فالماء الأول هو المطهر ، والثاني هو المني ، ومن للسببية ، والأنصار كانوا من أهل اللسان وفصحاء العرب ، وقد فهموا التخصيص منه حتى استدلوا به على نفي وجوب الاغتسال بالإكسال لعدم الماء ، ولو لم يكن التنصيص باسم الماء موجبا للنفي لما صح استدلالهم على ذلك . قلت : الذي يقول بهذا أبو بكر الدقاق وبعض الحنابلة والجواب أن ذلك ليس من دلالة التنصيص على التخصيص بل إنما هو من اللام المعرفة الموجبة للاستغراق عند عدم المعهود ونحن نقول : [ ص: 250 ] هذا الكلام للاستغراق والانحصار كما فهمت الأنصار ، لكن لما دل الدليل وهو الإجماع على وجوب الاغتسال من الحيض والنفاس أيضا نفى الانحصار فيما وراء ذلك مما يتعلق بالمني ، وصار المعنى جميع الاغتسالات المتعلقة بالمني منحصر فيه لا يثبت لغيره . فإن قلت : فعلى هذا ينبغي أن لا يجب الغسل بالإكسال لعدم الماء . قلت : الماء فيه ثابت تقديرا ; لأنه تارة يثبت عيانا كما في حقيقة الإنزال ، ومرة دلالة كما في التقاء الختانين فإنه سبب لنزول الماء ، فأقيم مقامه لكونه أمرا خفيا كالنوم ، فأقيم مقام الحدث لتعذر الوقوف عليه . فإن قلت : المنسوخ ينبغي أن يكون حكما شرعيا وعدم وجوب الغسل عند عدم الإنزال ثابت بالأصل . قلت : عدمه ثابت بالشرع إذ مفهوم الحصر في " إنما " يدل عليه ; لأن معنى الحصر إثبات المذكور ونفي غير المذكور ، فيفيد أنه لا ماء من غير الماء ، وقال الكرماني : ثم الراجح من الحديثين يعني حديث : الماء من الماء ، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب حديث التقاء الختانين ; لأنه بالمنطوق يدل على وجوب الغسل ، وحديث : الماء من الماء بالمفهوم يدل على عدمه ، وحجة المفهوم مختلف فيها ، وعلى تقدير ثبوتها المنطوق أقوى من المفهوم ، وعلى هذا التقرير لا يحتاج إلى القول بالنسخ . قلت : عدم دعوى الاحتياج إلى القول بالنسخ غير صحيح ; لأن المستنبطين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما وفقوا بين أحاديث هذا الباب المتضادة إلا بإثبات النسخ على ما ذكرناه . فإن قلت : حديث الالتقاء مطلق ، وحديث : الماء من الماء مقيد ، فيجب حمل المطلق على المقيد . قلت : هذا سؤال الكرماني على مذهبه ، ثم أجاب : ليس ذلك مطلقا بل عاما ; لأن الالتقاء وصف يترتب الحكم عليه ، وكلما وجد الوصف وجد الحكم ، وهذا ليس مقيدا بل خاصا ، وكأنه قال : بالالتقاء يجب الغسل ، ثم قال بالالتقاء مع الإنزال يجب الغسل ، فيصير من باب قوله صلى الله عليه وسلم : أيما إهاب دبغ فقد طهر . ثم قال صلى الله عليه وسلم : ودباغها طهرها . وإفراد فرد من العام بحكم العام ليس من المخصصات .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية