الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  199 65 - حدثنا أصبغ بن الفرج المصري ، عن ابن وهب قال : حدثني عمرو قال : حدثنا أبو النضر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمر ، عن سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه مسح على الخفين . وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك ، فقال : نعم ، إذا حدثك شيئا سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم سبعة : الأول : أصبغ ، بفتح الهمزة ، وسكون الصاد المهملة ، وفتح الباء الموحدة ، وفي آخره غين معجمة أبو عبد الله بن الفرج بالجيم ، الثقة القرشي المصري ، مات سنة ست وعشرين ومائتين ، كان متضلعا بالفقه والنظر .

                                                                                                                                                                                  الثاني : عبد الله بن وهب القرشي المصري ، ولم يكن في المصريين أحد أكثر حديثا منه ، وأصبغ كان وراقا له ، مر في باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عمرو بالواو ، ابن الحارث أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري القارئ الفقيه ، مات بمصر سنة ثمان وأربعين ومائة .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو النضر ، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ، سالم بن أبي أمية القرشي المدني مولى عمر بن عبد الله التيمي وكاتبه ، مات سنة تسع وعشرين ومائة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أبو سلمة بفتح اللام ، عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الفقيه المدني ، مر في كتاب الوحي .

                                                                                                                                                                                  السادس : عبد الله بن عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                  السابع : سعد بن أبي وقاص ، مر في باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 97 ] بيان لطائف إسناده : منها : أن فيه التحديث بصيغة الجمع ، وبصيغة الإفراد ، والعنعنة .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن فيه ثلاثة من رواته مصريون ، وهم أصبغ ، وابن وهب ، وعمرو ، وثلاثة مدنيون ، وهم أبو النضر ، وأبو سلمة ، وابن عمر .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن فيه رواية تابعي ، عن تابعي أبو النصر ، عن أبي سلمة .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن فيه رواية صحابي ، عن صحابي .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن معظم الرواة قرشيون فقهاء أعلام .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن هذا من مسند سعد بحسب الظاهر ، وكذا جعله أصحاب الأطراف ، ويحتمل أن يكون من مسند عمر أيضا .

                                                                                                                                                                                  وقال الدارقطني : رواه أبو أيوب الإفريقي ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن ابن عمر ، عن عمر ، وسعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الدارقطني : والصواب قول عمرو بن الحارث ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن ابن عمر ، عن سعد .

                                                                                                                                                                                  بيان من أخرجه غيره : لم يخرجه البخاري إلا ها هنا ، وهو من أفراده ، ولم يخرج مسلم في المسح إلا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي أيضا في الطهارة ، عن سليمان بن داود ، والحارث بن مسكين ، كلاهما عن ابن وهب به .

                                                                                                                                                                                  بيان المعنى ، والإعراب :

                                                                                                                                                                                  قوله ( وأن عبد الله بن عمر ) عطف على قوله ( عن عبد الله بن عمر ) ، فيكون موصولا إن حمل على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله ، وإلا فأبو سلمة لم يدرك القصة ، وعن ذلك قال الكرماني : وهذا إما تعليق من البخاري ، وإما كلام أبي سلمة ، والظاهر هو الثاني .

                                                                                                                                                                                  قوله ( عن ذلك ) أي : عن مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( شيئا ) نكرة عام ; لأن الواقع في سياق الشرط كالواقع في سياق النفي في إفادة العموم ، وقوله ( حدثك ) جملة من الفعل والمفعول ، وقوله ( سعد ) بالرفع ، فاعله قوله ( فلا تسأل عنه ) أي عن الشيء الذي حدثه سعد .

                                                                                                                                                                                  قوله ( غيره ) أي غير سعد ، وذلك لقوة وثوقه بنقله .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : الأول : فيه جواز المسح على الخفين ، ولا ينكره إلا المبتدع الضال ، وقالت الخوارج : لا يجوز .

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب ( البدائع ) : المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة ، إلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يجوز ، وهو قول الرافضة ، ثم قال : وروي عن الحسن البصري أنه قال : أدركت سبعين بدريا من الصحابة كلهم يرى المسح على الخفين ، ولهذا رآه أبو حنيفة من شرائط أهل السنة والجماعة ، فقال : نحن نفضل الشيخين ، ونحب الختنين ، ونرى المسح على الخفين ، ولا نحرم نبيذ الجر ، يعني المثلث ، وروي عنه أنه قال : ما قلت بالمسح حتى جاءني مثل ضوء النهار ، فكان الجحود ردا على كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ونسبته إياهم إلى الخطإ ، فكان بدعة ، ولهذا قال الكرخي : أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين ، والأمة لم تختلف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح .

                                                                                                                                                                                  وقال البيهقي : وإنما جاء كراهة ذلك عن علي ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم . فأما الرواية عن علي : سبق الكتاب بالمسح على الخفين ، فلم يرو ذلك عنه بإسناد موصول يثبت مثله . وأما عائشة فثبت عنها أنها أحالت بعلم ذلك على علي رضي الله تعالى عنه . وأما ابن عباس فإنما كرهه حين لم يثبت مسح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نزول المائدة ، فلما ثبت رجع إليه .

                                                                                                                                                                                  وقال الجوزقاني في ( كتاب الموضوعات ) : إنكار عائشة غير ثابت عنها .

                                                                                                                                                                                  وقال الكاشاني : وأما الرواية عن ابن عباس فلم تصح ; لأن مداره على عكرمة . وروي أنه لما بلغ عطاء قال : كذب عكرمة ، وروي عن عطاء أنه قال : كان ابن عباس يخالف الناس في المسح على الخفين ، فلم يمت حتى تابعهم .

                                                                                                                                                                                  وفي ( المغني ) لابن قدامة : قال أحمد : ليس في قلبي من المسح شيء ، فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما رفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يرفعوا ، وروي عنه أنه قال : المسح أفضل - يعني من الغسل - لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما طلبوا الفضل ، وهذا مذهب الشعبي ، والحكم ، وإسحاق .

                                                                                                                                                                                  وفي ( هداية الحنفية ) : الأخبار فيه مستفيضة حتى إن من لم يره كان مبتدعا ، لكن من رآه ثم لم يمسح أخذ بالعزيمة وكان مأجورا .

                                                                                                                                                                                  وحكى القرطبي مثل هذا عن مالك أنه قال عند موته ، وعن مالك فيه أقوال : أحدها : أنه لا يجوز المسح أصلا .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أنه يجوز ، ويكره .

                                                                                                                                                                                  الثالث ، وهو الأشهر : يجوز أبدا بغير توقيت .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أنه يجوز بتوقيت .

                                                                                                                                                                                  الخامس : يجوز للمسافر دون الحاضر .

                                                                                                                                                                                  السادس : عكسه .

                                                                                                                                                                                  وقال إسحاق ، والحكم ، وحماد : المسح أفضل من غسل الرجلين ، وهو قول الشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر : هما سواء ، وهو رواية عن أحمد .

                                                                                                                                                                                  وقال أصحاب الشافعي : الغسل أفضل من المسح بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة ، ولا يشك في جوازه .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من الفقهاء روي عنه إنكار المسح إلا مالكا ، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك .

                                                                                                                                                                                  قلت : فيه نظر لما في ( مصنف ) ابن أبي شيبة : من أن مجاهدا ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة كرهوه ، وكذا حكى أبو الحسن النسابة عن محمد بن علي بن الحسين ، وأبي إسحاق السبيعي ، وقيس بن الربيع ، وحكاه القاضي أبو الطيب ، عن [ ص: 98 ] أبي بكر بن أبي داود ، والخوارج ، والروافض .

                                                                                                                                                                                  وقال الميموني ، عن أحمد : فيه سبعة وثلاثون صحابيا . وفي رواية الحسن بن محمد عنه : أربعون . وكذا قاله البزار في ( مسنده ) . وقال ابن أبي حاتم : أحد وأربعون صحابيا .

                                                                                                                                                                                  وفي ( الأشراف ) عن الحسن : حدثني به سبعون صحابيا .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر بن عبد البر : مسح على الخفين سائر أهل بدر ، والحديبية ، وغيرهم من المهاجرين ، والأنصار ، وسائر الصحابة ، والتابعين ، وفقهاء المسلمين . وقد أشرنا إلى رواية ست وخمسين من الصحابة في المسح في شرحنا ( لمعاني الآثار ) للطحاوي ، فمن أراد الوقوف عليه ، فليرجع إليه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه تعظيم لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه أن الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليلة في الشرع ما يطلع عليه غيره ; لأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنكر المسح على الخفين مع قدم صحبته وكثرة روايته .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه أن خبر الواحد إذا حف بالقرائن يفيد اليقين ، وقد تكاثرت الروايات بالطرق المتعددة من الصحابة الذين كانوا لا يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر ولا في السفر ، فجرى ذلك مجرى التواتر .

                                                                                                                                                                                  وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك ، فسقط به قول من يقول : آية الوضوء مدنية ، والمسح منسوخ بها ; لأنه متقدم ، إذ غزوة تبوك آخر غزوة كائنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمائدة نزلت قبلها ، ومما يدل على أن المسح غير منسوخ حديث جرير رضي الله تعالى عنه : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ، وهو أسلم بعد المائدة ، وكان القوم يعجبهم ذلك ، وأيضا فإن حديث المغيرة في المسح كان في السفر ، فيعجبهم استعمال جرير له في الحضر .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : لما كان إسلام جرير متأخرا علمنا أن حديثه يعمل به ، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف ، فتكون السنة مخصصة للآية .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه دليل على أنهم كانوا يرون نسخ السنة بالقرآن . قاله الخطابي .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية