[ ص: 124 ] فصل ( في ) حبوط المعاصي بالتوبة والكفر بالإسلام
وتحبط المعاصي بالتوبة ، والكفر بالإسلام ، والطاعة بالردة المتصلة بالموت ، لا تحبط طاعة بمعصية غير الردة المذكورة . وذكر ابن الجوزي وغيره أن المن والأذى يبطل الصدقة .
وقال لا تحبط طاعة بمعصية إلا ما ورد في الأحاديث الصحيحة فيوقف الإحباط على الموضع الذي ورد فيه ، ولا نقيس عليه . ابن عقيل
وقال الشيخ تقي الدين : الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات ولكن قد تحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة ، واختاره أيضا في مكان آخر . قال كما دلت عليه النصوص ، واحتج بإبطال الصدقة بالمن والأذى قال في نهاية المبتدئ : وقالت عائشة لأم ولد زيد بن أرقم أخبري أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . ثم ذكر { زيد بن أرقم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } . الآية .
ولم يتكلم عليها ثم ذكر : { ولا تبطلوا أعمالكم } الآية وذكر أقوال المفسرين فيها منهم الحسن قال : بالمعاصي والكبائر قال وهو يدل على حبوط بعض الأعمال بها .
وذكر ابن الجوزي : { لا ترفعوا أصواتكم } الآية ولم يتكلم على ما يحبط بل قال : وقد قيل إن الإحباط بمعنى نقص المنزلة لا حبوط العمل من أصله كما يحبط بالكفر وذكر البغوي حبوط حسناتكم وليس مراده ظاهره .
وقال القرطبي ليس قوله : [ ص: 125 ] { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع ، وقيل لا تحبط معصية بطاعة لا مع التساوي ولا مع التفاضل . قال : وفي سورة البقرة : { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } .
وفي سورة النساء : { ولا باليوم الآخر } .
ولأنه في البقرة أخبر بحبوط عمله بعد الإيمان والإيمان المشروط في قبول العمل هو الإيمان بالله واليوم الآخر لا بأحدهما فلو قيل ولا باليوم الآخر لكان يتوهم أن أحدهما كاف في قبول العمل كما لو قيل هذا يصلي بلا وضوء ولا تيمم ويحكم بين الناس بلا كتاب ولا سنة :
{ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } وأما في سورة النساء فإنه ذمهم على ترك الإيمان وهم مذمومون على ترك كل منهما على حدته ويرده قوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { } رواه أتبع السيئة الحسنة تمحها الترمذي وحسنه .
وقال في حديث ابن هبيرة { حذيفة } متفق عليه قال لأن هذه حسنات أخبر الله أنهن يذهبن السيئات . قال : وإنما يعني الصيام المفروض والصلاة المفروضة فلا يحتاج الإنسان أن يعين لذلك مكفرا غير ذلك ولو أراد غير المفروض المعهود لقال صيام وصلاة . [ ص: 126 ] فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الشيخ تقي الدين كفارة الشرك التوحيد والحسنات يذهبن السيئات . قال في نهاية المبتدئ ، وقيل تحبط الصغائر بثواب المرء إذا اجتنبت الكبائر . كذا قال ولم يذكر ما يخالفه وهو الذي ذكره في الانتصار ، وقيل له في الفنون في قوله عليه السلام ، { ابن عقيل } كيف يعذبان بما ليس بكبيرة ؟ والصغائر بترك الكبائر تنحبط أولا فأولا بقوله تعالى : { إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير : أما أحدهما فكان لا يتنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه }
فقال في الخبر " كان " وكان لدوام الفعل فلهذا بالدوام حكم الكبيرة على أن في الخبر تعذيبهما بالصغائر وفي الآية إخبار بتكفيرها وتكفيرها يجوز أن يكون بالآلام والبلايا ولعل المعذبين لم تكفر صغائرهما بمصائب ولا آلام . كذا قال . وتقدم قول أبي بكر فيه ، وفي الغنية إذا تاب المؤمن عن الكبائر اندرجت الصغائر في ضمنها لقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه }
لكن لا يطمع نفسه في ذلك بل يجتهد في التوبة عن جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ، فعلى كلام هؤلاء من أصحابنا رحمهم الله أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر وهو ظاهر ما ذكره جماعة من المفسرين منهم الجوزي لظاهر قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }
واختلف الصحابة والتابعون في الكبائر اختلافا كثيرا بضعة عشر قولا ليس في شيء منها أنه الشرك فقط . وحكاه بعض المفسرين قولا ولم يذكر قائله فالقول به خلاف إجماع الصحابة والتابعين في الآية مع أنه خلاف ظاهر على ما لا يخفى فظاهرها أن اجتنابها مكفر نصبه الشارع [ ص: 127 ] سببا لذلك فليس المكفر حسنات ولا مصائب بل ذلك مكفر أيضا .
فمن ادعى أنه مراد الآية ومقتضاها أو تدل عليه فقد خالف ظاهر الآية بغير دليل كما خالف ظاهر الإجماع السابق ، ولو كان الأمر كما قاله أو كما قاله من قال المراد الشرك لبينه الصحابة والتابعون ولما أغفله مثلهم وإنما أجروا الآية على ظاهرها ، ولا يخفى أنه لا يتجه تضعيف القول الأول وتصحيح الثاني ، وأن طريق التضعيف واحد .
ومما يوافق ظاهر الآية ما رواه عن مسلم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } . الجمعة إلى الجمعة والصلوات الخمس ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر
وروى أيضا عن مسلم رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { عثمان بن عفان } وعن ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أبي أيوب الأنصاري } إسناده جيد وفيه من جاء يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئا ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويصوم رمضان ، ويتقي الكبائر ، فإن له الجنة وحديثه جيد رواه بقية بن الوليد أحمد وليس عندهم يصوم رمضان . والنسائي
وقد ظهر مما سبق أن الصغائر لا تقدح في العدالة لوقوعها مكفرة شيئا فشيئا . وقد اعترف بصحة هذا وأنه لولا الإجماع لقلنا به . كذا قال . وأين الإجماع المخالف لهذا ؟ بل مقتضى ما سبق عن أصحابنا ومقتضى الإجماع السابق لظاهر الكتاب والسنة وهو متوجه كما ترى . ابن عقيل
وقاله في الواضح في النهي عن أحد شيئين لا بعينه ، وهذا معنى قول بعض أصحابنا إنه يقدح في العدالة إدمان الصغيرة لكن ظاهر القول الأول ولو أدمن وقد روى ابن عقيل ابن جرير في تفسير قوله تعالى : { إن تجتنبوا }
[ ص: 128 ] حدثنا المثنى حدثنا أبو حذيفة ثنا شبل عن قيس بن سعد عن أن رجلا قال سعيد بن جبير كم الكبائر ؟ سبع ؟ قال : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وكذا رواه لابن عباس ابن أبي حاتم عن شبل وهو إسناد صحيح . فإن قلنا قول الصحابة حجة صارت الصغيرة بإدمانها كالكبيرة ، وإن لم نقل كذلك فالعمل : لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار ، صارت الصغيرة بإدمانها كالكبيرة ، وإن لم يثبت فالعمل بظاهر القول السابق ، وظاهر الأدلة أولى .
وعن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وهو على المنبر : { عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما } رواه ارحموا ترحموا ، واغفروا يغفر لكم ، ويل لأقماع القول ، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون حدثنا أحمد يزيد حدثنا حبان عن عبد الله فذكره . قول البخاري في تاريخه حبان بن زيد الشرعبي أبو خداش الشامي ، وروى عنه يروي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حريز قاله وعبد الله بن عمرو وحدثني معاذ بن معاذ عصام حدثنا عن حريز حبان وقال عن يزيد بن هارون حبان والأول أصح ولم أجد في حبان كلاما ولا روى عنه إلا لكن ظاهر ما ذكره حريز أنه مشهور . قال البخاري أصل الشرعبة الطول ، يقال رجل شرعاب وامرأة شرعابة وهذا منسوب إلى الأصمعي شرعب بن قيس من حمير
، والأقماع جمع قمع بكسر القاف وبسكون الميم وفتحها كنطع ونطع ، وقيل بفتح القاف وسكون الميم وهو الإناء الذي ينزل في رءوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان . شبه أسماع الذين يسمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ويعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئا مما يفرغ فيها فكأنه يمر عليها مجتازا كما يمر الشراب في الأقماع . .
قال في النهاية : ومنه الحديث { ابن الأثير أول من يساق إلى النار الأقماع الذين إذا أكلوا لم يشبعوا ، وإذا جمعوا لم يستغنوا } أي كان ما يأكلونه [ ص: 129 ] ويجمعونه يمر بهم مجتازا غير ثابت فيهم ولا باق عندهم ، وقيل أراد بهم أهل البطالات الذين لا هم لهم إلا في ترجئة الأيام بالباطل ، فلا هم في عمل الدنيا ولا عمل الآخرة . ويأتي هذا المعنى في آخر الكتاب في نظم صاحب النظم .
وجعل الصغيرة في الكبيرة بهذا الحديث فيه نظر لأن الأصل عدم ذلك وقد عمل به في الكبائر وليس بخاص في الصغائر ليخص به ظاهر ما سبق . والأشهر في كتب الفقه أن الصغائر تقدح في العدالة فلا تكفر باجتناب الكبائر ، فعلى هذا إذا مات غير تائب منهما فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له عند أهل السنة كالكبائر خلافا للمعتزلة وعلى الأول إذا كفرت باجتناب الكبائر ظاهره لا تنقص درجته عن درجة من لم يأت صغيرة كالتوبة منها . والله سبحانه أعلم .
وذكر الشيخ تقي الدين عن المعتزلة وغيرهم أنه يجب الإحباط وإذا اجتنب الكبائر أن لا يعاقب على صغيرة بل تنقص درجته عن درجة من لا ذنب له مع مساواته له في الحسنات ولا يجوز عندهم أن يعاقب على ذلك وأن عند الأشعرية : لا يجوز الإحباط ويعاقب على السيئة ويجازى بالحسنة وأن الصغيرة يجوز أن تغفر فلا تنقص درجته .
قال القاضي أبو بكر وأمثاله : حملوا قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه }
على أن المراد به الكفر فقط . وقالوا : { نكفر عنكم سيئاتكم }
أي إن شئنا وجعلوا هذه الآية مثل قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ ص: 130 ]
وهذا غلط في معنى الآية خالفوا به تفسير إجماع السلف والأحاديث الصحيحة ومدلولها والمعتزلة أيضا غلطوا في معنى الآية فاعتقدوا أن قوله : { نكفر عنكم سيئاتكم } .
المراد به المغفرة ولا بد ، وهذا قد يظنه كثير من الناس بخلاف تفسير الكبائر بالشرك لم ينقل عن أحد من السلف وجعلت المعتزلة المغفرة في : { إن الله لا يغفر أن يشرك به }
والآية مشروطة بالتوبة كقوله : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } وليس كذلك إذ لو كانت مشروطة بالتوبة لم تخص بما دون الشرك ولم تعلق بالمشيئة بل قوله { لمن يشاء } لا يمنع أن تكون المغفرة بأسباب منها الحسنات ومنها المصائب المكفرة .
وأما قوله : إن تجتنبوا الآية ، ففيه الوعد بالتكفير ، والتكفير يكون بالأعمال الصالحة تارة وبالمصائب المكفرة تارة ، فمن كفرت سيئاته بنفس العمل كان من باب الموازنة وهذا تنقص درجته عمن سلم من تلك الذنوب كما قال ذلك من قاله من المعتزلة وغيرهم ، ومن كفرت بالمصائب والحدود وعقوبات الدنيا فإنه تسلم له حسناته فلا تنتقص درجته بل ترتفع درجاتهم بالصبر على المصائب فيكونون أرفع مما لو عوقبوا وأصحاب العافية يكونون أدنى .
وقوله { من يعمل سوءا يجز به } عام وسقوط الحسنات التي تقابلها من الجزاء أيضا ، وكذلك { من يعمل مثقال ذرة } الآية ثم إما أن يقال هذا مشروط بعدم التوبة أو يقال التوبة فيها شدة على [ ص: 131 ] النفس ومخالفة هوى ففيها ألم هو من جنس الجزاء فيكون { من يعمل سوءا } .
عام مخصوصا ، أو يقال التوبة من جنس الحسنات الماحية فلم تبق السيئة سيئة كما أن الإيمان الذي تتعقبه الردة ليس بإيمان فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له . وعند الأشعرية وغيرهم وجود التوبة كعدمها يمكن مع ذلك أن يعذبه لكن يظن أنه يغفر له وإلا فالاستحقاق لا يدرى عندهم لأنه من باب الإحباط وهم يقولون إنه ممتنع .
وذكر الشيخ تقي الدين رضي الله عنه أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب وذكر حديث { } وحديث البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر الله لها . وحديث الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك فغفر له رواه فثقلت البطاقة وطاشت السجلات البخاري من حديث ومسلم . أبي هريرة