قال ابن الجوزي : وقد رأيت أنا ببغداد من الصوفية من كان له مال ، ودخل فكان الخلق يتقربون إلى السلاطين ويطلبون منهم وهو لا يبالي فكنت أغبطه على ذلك ; لأن من احتاج إلى السلاطين يذلونه ويحتقرونه وربما منعوه ، فإن أعطوه أخذوا من دينه أكثر قال الرشيد أتيناك فانتفعنا وأتى لمالك بن أنس : فلم ننتفع به ، وكان سفيان بن عيينة يقول : قد كنت أوتيت فهما في القرآن فلما أخذت من مال ابن عيينة أبي جعفر حرمت ذلك .
[ ص: 222 ] وإن احتاج الإنسان إلى العوام بخلوا فإن أعطوا تضجروا ومنوا . وقل من رأيناه ينافق ، أو يرائي ، أو يتواضع لصاحب دنيا إلا لأجل الدنيا . والحاجة تدعو إلى كل محنة ، قال بشر الحافي : لو أن لي دجاجة أعولها خفت أن أكون عشارا على الجسر :
فينبغي للعاقل أن يجمع همه ليقبل على العلم والعمل بقلب فارغ من الهم وبعد فإذا صدقت نية العبد ، وقصده رزقه الله تعالى ، وحفظه من الذل ودخل في قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } .
ويأتي كلام نحو ثلثي الكتاب في إخراج المال والكرم والله أعلم . ابن عقيل
وقال أيضا في كتاب السر المصون من علم أن الدنيا دار سباق وتحصيل الفضائل ، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل زادت المرتبة في دار الجزاء ، انتهب الزمان ، ولم يضيع لحظة ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها ، ومن وفق لهذا فليبتكر زمانه بالعلم ، وليصابر كل محنة وفقر ، إلى أن يحصل له ما يريد ، وليكن مخلصا في طلب العلم عاملا به حافظا له ، فإما أن يفوته الإخلاص فذاك تضييع زمان وخسران الجزاء ، وإما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له ، وإما جمعه من غير حفظ ، فإن العلم ما كان في الصدور لا في القمطر .
ومتى أخلص في طلبه دله على الله عز وجل إلى أن قال : وليبعد عن مخالطة الخلق مهما أمكن خصوصا العوام ، وليصن نفسه من المشي في الأسواق فربما وقع البصر على فتنة ، وليجتهد في مكان لا يسمع فيه أصوات الناس ، وليزاحم القدماء من كبار العلماء والعباد منتهبا الزمان في كل ما هو أفضل من غيره ، ومن علم أنه مار إلى الله عز وجل وإلى العيش معه ، وعنده وإن أيام الدنيا أيام سفر صبر [ ص: 223 ] على تفث السفر ووسخه انتهى كلامه .
وقد قال أيضا : لو صدقت في الطلب ، ( لوقعت ) على كنز الذهب ، ولو وجدوك مستقيما ، ما تركوك سقيما شعر :
وربما غوفص ذو غفلة أصح ما كان ولم يسقم يا واضع الميت في قبره
خاطبك القبر ولم تفهم خاضوا أمر الهوى في فنون
فزادهم في اسم هواهم حرف نون
وقال أيضا : اعلم أن الراحلة لا تنال بالراحة ومعالي الأمور لا تنال بالراحة ، فمن زرع حصد ، ومن جد وجد :
تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل
أترى ينفع هذا العتاب ؟ أترى يسمع لهذا العذل جواب ؟ إذا أقلقهم الخوف ناحوا ، وإذا أزعجهم الوجد صاحوا ، وإذا غلبهم الشوق باحوا . شعر :
وحرمة الود ما لي عنكم عوض وليس والله لي في غيركم غرض
ومن حديثي بكم قالوا به مرض فقلت لا زال عني ذلك المرض
وقد روى بعد جمعه لطرق وأسانيد أظنه في حديث النهي عن مسلم وهو تابعي إمام عابد أنه قال : لا يستطاع العلم براحة الجسم وقد قيل . يحيى بن أبي كثير
[ ص: 224 ]
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
وفي الصحيحين من حديث { أنس } . بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا
وفي من حديث مسلم { أبي هريرة } وقد ذكرت قوله إنما بعثتم ميسرين لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن { } ، وكان : بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا يقول : مرحبا بوصية رسول الله . أبو سعيد
وقال حدثنا أبو داود الطيالسي حدثني إسماعيل بن عياش حميد بن أبي سويد عن عن عطاء أن رسول الله قال { أبي هريرة رضي الله عنه : علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف } . حميد له مناكير تكلم فيه ابن عدي وغيره ، ويأتي قبل ذكر الكرم والبخل في فضول الكسب قول محمد بن عبد الباقي الحنبلي : يجب على المعلم أن لا يعنف ، وعلى المتعلم أن لا يأنف .
وقال كان الأعمش : إذا جاءه أصحابه قال : أنتم جلاء قلبي . ويأتي في أول فصول العلم قول ابن مسعود : تواضعوا لمن علمكم ، وتواضعوا لمن تعلمون ، ولا تكونوا من جباري العلماء ، ويأتي بعده في فصل قال عمر رضي الله عنه المروذي : قول لا تعلم العلم لتماري به ، ولا لترائي به ، ولا لتباهي به ، ولا تتركه حياء من طلبه ولا زهادة فيه ، ولا [ ص: 225 ] رضاء بالجهالة ، وقول عمر وغيره : من رق وجهه رق علمه ، وما يتعلق بذلك . ابن عمر
وقال لحلقة قد جلسوا إلى جانب عمرو بن العاص الكعبة فلما قضى طوافه جلس إليهم ، وقد نحوا الفتيان عن مجلسهم ، فقال : لا تفعلوا أوسعوا لهم وأدنوهم وألهموهم ، فإنهم اليوم صغار قوم يوشك أن يكونوا كبار قوم آخرين قد كنا صغار قوم أصبحنا كبار آخرين .
وهذا صحيح لا شك فيه ، فينبغي الاعتناء بصغار الطلبة لا سيما الأذكياء المتيقظين الحريصين على أخذ العلم ، فلا ينبغي أن يجعل على ذلك صغرهم أو فقرهم وضعفهم مانعا من مراعاتهم ، والاعتناء بهم ، وقد سبق في هذا الفصل قريبا كلام والعلم في الصغر أثبت الشاشي .
وقد روى من ( طريقين ) عن البيهقي مرفوعا { أبي هريرة : من تعلم القرآن في شبيبته اختلط بلحمه ودمه ، ومن تعلمه في كبره فهو يتفلت منه ولا يتركه فله أجره مرتين } ، ولآخره شاهد في الصحيحين .
وعن من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا . ابن عباس :
ورواه بعضهم مرفوعا .
وعن العلم في الصغر ، كالنقش في الحجر وقال الحسن البصري : عن إسماعيل بن عياش إسماعيل بن رافع ، وهو متروك مرسلا " من تعلم وهو شاب كان كرسم في حجر ، ومن تعلم في الكبر كان كالكاتب على ظهر الماء " وقال علقمة : ما تعلمته وأنا شاب فكأنما أقرأه من دفتر . وقد تواتر تعظيم الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم غاية حتى بهر الأعداء كما في حديث صلح الحديبية وغيره ، وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } . [ ص: 226 ] وقول { عمر جلسنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة كأنما على رءوسنا الطير } { وعن قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير المغيرة بن شعبة } رواه عن البيهقي عن الحاكم عن الحافظ الزبير بن عبد الواحد محمد بن أحمد الزبيقي عن زكريا بن يحيى المنقري حدثنا حدثنا الأصمعي كيسان مولى هشام عن محمد بن هشام عن عن محمد بن سيرين المغيرة قال ورويناه عن البيهقي . أنس بن مالك
وقال عن عبد الرزاق عن معمر عن أبيه قال : " من السنة أن يوقر أربعة : العالم ، وذو الشيبة ، والسلطان ، والوالد ، ومن الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه " . ابن طاوس
وروى من طريق البيهقي سويد عن سعيد عن خالد بن يزيد عن أبيه عن عن خالد بن معدان أبي أمامة مرفوعا { ثلاث من توقير جلال الله ذو الشيبة في الإسلام ، وحامل كتاب الله عز وجل ، وحامل العلم من كان صغيرا أو كبيرا } ضعفه خالد أحمد وابن معين والأكثر .
وقال الشعبي : أخذ بركاب ابن عباس ، وقال : هكذا يصنع بالعلماء وقال زيد بن ثابت أيوب عن أن مجاهد أخذ له بالركاب ، وأخذ ابن عمر بركاب الليث الزهري وقال عن الثوري مغيرة : كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير ، وكذلك أصحاب مع مالك . مالك
ولذلك قال الشاعر :
يأبى الجواب فما يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو الأمير وليس ذا سلطان
وقال رضي الله عنه إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي : ارحموا عزيز قوم ذل ، وغني قوم افتقر ، وعالما بين جهال ، قال الفضيل بن عياض وروي هذا مرفوعا ولا يصح . [ ص: 227 ] البيهقي
وقال ابن طاهر المقدسي الحافظ : سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري يعني شيخ الإسلام سمعت يقول : رحلت إلى أبا الفضل الجارودي أبي القاسم الطبراني إلى أصبهان فلما دخلت عليه قربني وأدناني ، وكان يتعسر علي في الأخذ فقلت له يوما : أيها الشيخ لم تتعسر علي وتبذل للآخرين قال : لأنك تعرف قدر هذا الشأن وهؤلاء لا يعرفون قدره .
قال ابن طاهر : سمعت يقول : رأيت في حضري وسفري حافظا ونصف حافظ ، فالحافظ أبا إسماعيل الأنصاري الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الأصبهاني ، والآخر ، وكان إذا حدث عن أبو الفضل الجارودي يقول : حدثنا إمام المشرق . الجارودي
وفي تاريخ المادح والممدوح للحافظ عبد القادر الرهاوي أن توفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة ، وإن الجارودي محمد بن أحمد كان إذا حدث عن أبا إسماعيل الأنصاري أحمد بن علي الأصبهاني قال : أخبرنا وكان أحفظ البشر . أحمد بن علي
قال ابن طاهر رحلت من مصر إلى نيسابور لأجل أبي القاسم الفضل بن عبد الله بن المحب صاحب أبي الحسين الخفاف ، فلما دخلت عليه قرأت في أول مجلس جزأين من حديث أبي العباس السراج فلم أجد لذلك حلاوة واعتقدت أني نلته بغير تعب ; لأنه لم يمتنع علي ولا طالبني بشيء هو كل حديث من الجزأين يسوى رحلة ، وسيأتي ما يتعلق بهذا في فصول القيام وبعدها قبل فصول العلم وفي فصول العلم أيضا والله أعلم .
وقد قيل :
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد أحدا سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتنا التي عودتنا أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
وقال آخر :
لا تلحقنك ضجرة من سائل فلخير يومك أن ترى مسئولا [ ص: 228 ]
لا تجبهن بالمنع وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولا
واعلم بأنك صائر مثلا فكن مثلا يروق السامعين جميلا
وقال آخر :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب
فجد بلطف عطفك وأغنه بجمال وجهك عن سؤال شفيع