مطلب
nindex.php?page=treesubj&link=19323_19277هل السمع أفضل أم البصر ؟ .
وقال في موضع آخر : ولما كان للسمع والبصر من الإدراك ما ليس لغيرهما من الأعضاء كانا في أشرف جزء من الإنسان وهو وجهه . واختلف
[ ص: 77 ] في الأفضل منهما ، فقالت طائفة منهم
أبو المعالي وغيره : السمع أفضل من البصر . قالوا لأنه به تنال سعادة الدنيا والآخرة ، فإنها إنما تحصل بمتابعة الرسل وقبول رسالاتهم ، وبالسمع عرف ذلك ، فإن من لا سمع له لا يعلم ما جاءوا به .
وأيضا فإن السمع يدرك به أجل شيء وأفضله وهو كلام الله الذي فضله على الكلام كفضل الله على خلقه . وأيضا إنما تنال العلوم بالتفاهم والتخاطب ولا يحصل ذلك إلا بالسمع ، ومدرك السمع أعم من مدرك البصر ، فإنه يدرك الكليات والجزئيات ، والشاهد والغائب ، والموجود والمعدوم ، بخلاف البصر فإنه إنما يدرك بعض المشاهدات ، والسمع يسمع كل علم ، فأين أحدهما من الآخر .
ولو فرضنا شخصين أحدهما يسمع كلام الرسول ولا يرى شخصه ، والآخر بصير يراه ولا يسمع كلامه لصممه هل كانا سواء ؟ وأيضا ففاقد البصر إنما يفقد إدراك بعض الأمور الجزئية المشاهدة ويمكنه معرفتها بالصفة ولو تقريبا بخلاف فاقد السمع ، فإن الذي فاته من العلم لا يمكن حصوله بحاسة البصر ولا قريبا منه .
وقد ذم الله سبحانه الكفار بعدم السمع في القرآن أكثر من ذمه لهم بعدم البصر ، بل إنما يذمهم بعدم البصر تبعا لعدم العقل والسمع .
وأيضا الذي يورده السمع على القلب من العلوم لا يلحقه فيه كلال ولا سآمة ولا تعب مع كثرته وعظمه ، بخلاف الذي يورده البصر عليه فإنه يلحقه فيه الكلال والضعف والنقص ، وربما خشي صاحبه على ذهابه مع قلته بالنسبة إلى السمع .
وقالت طائفة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة : بل البصر أفضل ، فإن أعلى النعيم لذة وأفضله منزلة النظر إلى الله تعالى في دار الآخرة ، وهذا إنما ينال بالبصر ، وهذه وحدها كافية في تفضيله . قالوا وهو مقدمة القلب وطليعته ورائده ، فمنزلته عنده أقرب من منزلة السمع ، ولهذا كثيرا ما يقرن بينهما في الذكر كقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فاعتبروا يا أولي الأبصار } فالاعتبار بالقلب والبصر بالعين . وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } ولم يقل وأسماعهم .
وقال تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=46فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }
[ ص: 78 ] وقال {
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=19يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } وهذا وأمثاله يدل على شدة الوصلة والارتباط بين القلب والبصر . ولما كان القلب أشرف الأعضاء كان أشدها ارتباطا به أشرف من غيره ، ولهذا يأمنه القلب على ما لا يأمن السمع عليه ، بل إذا ارتاب من جهة عرض ما يأتيه به على البصر ليزكيه أو يرده ، فالبصر حاكم مؤتمن عليه .
قالوا : ومن هذا الحديث المشهور الذي رواه الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في مسنده مرفوعا {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33804ليس المخبر كالمعاين } ولذا أخبر الله سبحانه
موسى بأن قومه افتتنوا من بعده وعبدوا العجل فلم يلحقه في ذلك ما لحقه عند رؤية ذلك ومعاينته من إلقاء الألواح وكسرها لقوة المعاينة على الخبر . وهذا
إبراهيم خليل الله سأل ربه يريه كيف يحيي الموتى ، وقد علم ذلك بخبر الله له ، ولكن طلب أفضل المنازل وهي طمأنينة القلب .
قالوا : ولليقين ثلاث مراتب ، أولها السمع ، وثانيها العين وهي المسماة بعين اليقين وهي أفضل من المرتبة الأولى وأكمل وتقدم بيانها .
قالوا : وأيضا فالبصر يؤدي إلى القلب ويؤدي عنه ، فإن العين مرآة القلب يظهر فيها ما يحبه من البغض والمحبة ، والموالاة والمعاداة ، والسرور والحزن ، وأما الأذن فلا تؤدي عن القلب شيئا ألبتة ، وإنما مرتبتها الإيصال إليه حسب ، فالعين أشد تعلقا به .
قال : والصواب أن كلا منهما له خاصية فضل بها الآخر ، فالمدرك بالسمع أعم وأشمل ، والمدرك بالبصر أتم وأكمل . فالسمع له العموم والشمول ، والبصر له الظهور والتمام وكمال الإدراك .
وأما نعيم الجنة فشيئان :
أحدهما النظر إلى الله .
والثاني : سماع خطابه وكلامه كما رواه
الإمام بن الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في السنة وغيره : كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن إذا سمعوه من الرحمن عز وجل . قال ومعلوم أن سلامه عليهم وخطابه لهم ومحاضرته إياهم كما في
الترمذي وغيره لا يشبهها شيء قط ، ولا يكون أطيب عندهم منها . ولهذا يذكر سبحانه في وعيد أعدائه أنه لا يكلمهم كما يذكر أصحابه عنهم ولا يرونه ، فكلامه ورؤيته أعلى نعيم أهل الجنة .
[ ص: 79 ] وقال في موضع آخر من كتاب مفتاح دار السعادة : واختلف النظار في الضرير والأطرش أيهما أقرب إلى الكمال وأقل اختلالا لأموره ، وهذا مبني على أصل وهو أي الصفتين أكمل ، صفة السمع أو صفة البصر ، ثم أشار إلى ما قدمنا وأنه أي الصفتين كان أكمل فالضرر بعدمها أقوى .
ثم قال : والذي يليق بهذا الموضع أن يقال : عادم البصر أشدهما ضررا ، وأسلمهما دينا وأحمدهما عاقبة . وعادم السمع أقلهما ضررا في دنياه ، وأجهلهما بدينه ، وأسوأ عاقبة ، فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح ، وانسدت عليه أبواب العلوم النافعة ، وانفتح له طرق الشهوات التي يدركها البصر ، ولا يناله من العلم ما يكفه عنها . فضرره في دينه أكثر ، وضرر الأعمى في دنياه أكثر . ولهذا لم يكن في الصحابة رضي الله عنهم أطرش ، وكان فيهم جماعة أضراء ، وقل أن يبتلي الله أولياءه بالطرش ، ويبتلي كثيرا منهم بالعمى .
فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة ، فمضرة الطرش في الدين ، ومضرة العمى في الدنيا ، والمعافى من عافاه الله منهما ومتعه بسمعه وبصره ، وجعله الوارث منه . انتهى .
والحاصل أن القلب
nindex.php?page=treesubj&link=19891أفضل الجوارح ، إذ هو الملك ، ثم اللسان ، ثم السمع لسعة إدراكه ، ثم البصر على اختلاف في الأخيرين كما ذكرنا . وأما الأولان فلا خلاف فيهما فيما علمنا . ولذا يلحق من عدم البيانين بيان اللسان وبيان الجنان بالحيوانات البهيمية ، بل هي أحسن حالا منه ، وإن عدم بيان اللسان وحده عدم خاصية الإنسان وهي النطق واشتدت المؤنة به وعليه ، وعظمت حسرته فطال تأسفه على رد الجواب ورجع الخطاب ، فهو كالمقعد الذي يرى ما هو محتاج إليه ولا تمتد يده إليه . فجل شأن الله كم له من نعمة على عباده سابغة في هذه الأعضاء والقوى والمنافع ، فحكمته سبحانه بالغة .
وهذه مسألة شريفة قل أن تعثر عليها في كتاب ، والله أعلم بالصواب .
مَطْلَبٌ
nindex.php?page=treesubj&link=19323_19277هَلْ السَّمْعُ أَفْضَلُ أَمْ الْبَصَرُ ؟ .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : وَلَمَّا كَانَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ كَانَا فِي أَشْرَفِ جُزْءٍ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ وَجْهُهُ . وَاخْتُلِفَ
[ ص: 77 ] فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ : السَّمْعُ أَفْضَلُ مِنْ الْبَصَرِ . قَالُوا لِأَنَّهُ بِهِ تُنَالُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ وَقَبُولِ رِسَالَاتِهِمْ ، وَبِالسَّمْعِ عُرِفَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ لَا يَعْلَمُ مَا جَاءُوا بِهِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّمْعَ يُدْرَكُ بِهِ أَجَلُّ شَيْءٍ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَى الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ . وَأَيْضًا إنَّمَا تُنَالُ الْعُلُومُ بِالتَّفَاهُمِ وَالتَّخَاطُبِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ ، وَمُدْرَكُ السَّمْعِ أَعَمُّ مِنْ مُدْرَكِ الْبَصَرِ ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ ، وَالشَّاهِدَ وَالْغَائِبَ ، وَالْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُدْرِكُ بَعْضَ الْمُشَاهَدَاتِ ، وَالسَّمْعُ يَسْمَعُ كُلَّ عِلْمٍ ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ .
وَلَوْ فَرَضْنَا شَخْصَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ كَلَامَ الرَّسُولِ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ ، وَالْآخَرُ بَصِيرٌ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِصَمَمِهِ هَلْ كَانَا سَوَاءً ؟ وَأَيْضًا فَفَاقِدُ الْبَصَرِ إنَّمَا يَفْقِدُ إدْرَاكَ بَعْضِ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ وَيُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهَا بِالصِّفَةِ وَلَوْ تَقْرِيبًا بِخِلَافِ فَاقِدِ السَّمْعِ ، فَإِنَّ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ بِعَدَمِ السَّمْعِ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَمِّهِ لَهُمْ بِعَدَمِ الْبَصَرِ ، بَلْ إنَّمَا يَذُمُّهُمْ بِعَدَمِ الْبَصَرِ تَبَعًا لِعَدَمِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ .
وَأَيْضًا الَّذِي يُورِدُهُ السَّمْعُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ الْعُلُومِ لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ كَلَالٌ وَلَا سَآمَةٌ وَلَا تَعَبٌ مَعَ كَثْرَتِهِ وَعِظَمِهِ ، بِخِلَافِ الَّذِي يُورِدُهُ الْبَصَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ الْكَلَالُ وَالضَّعْفُ وَالنَّقْصُ ، وَرُبَّمَا خَشِيَ صَاحِبُهُ عَلَى ذَهَابِهِ مَعَ قِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّمْعِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
nindex.php?page=showalam&ids=13436ابْنُ قُتَيْبَةَ : بَلْ الْبَصَرُ أَفْضَلُ ، فَإِنَّ أَعْلَى النَّعِيمِ لَذَّةً وَأَفْضَلَهُ مَنْزِلَةً النَّظَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا إنَّمَا يُنَالُ بِالْبَصَرِ ، وَهَذِهِ وَحْدَهَا كَافِيَةٌ فِي تَفْضِيلِهِ . قَالُوا وَهُوَ مُقَدِّمَةُ الْقَلْبِ وَطَلِيعَتُهُ وَرَائِدُهُ ، فَمَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلَةِ السَّمْعِ ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُقْرَنُ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ كَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=2فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } فَالِاعْتِبَارُ بِالْقَلْبِ وَالْبَصَرُ بِالْعَيْنِ . وَقَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَلَمْ يَقُلْ وَأَسْمَاعَهُمْ .
وَقَالَ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=46فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
[ ص: 78 ] وَقَالَ {
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=19يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْوَصْلَةِ وَالِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ . وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ كَانَ أَشَدَّهَا ارْتِبَاطًا بِهِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا يَأْمَنُهُ الْقَلْبُ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ السَّمْعَ عَلَيْهِ ، بَلْ إذَا ارْتَابَ مِنْ جِهَةٍ عَرَضَ مَا يَأْتِيهِ بِهِ عَلَى الْبَصَرِ لِيُزَكِّيَهُ أَوْ يَرُدَّهُ ، فَالْبَصَرُ حَاكِمٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ .
قَالُوا : وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مَرْفُوعًا {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33804لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ } وَلِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
مُوسَى بِأَنَّ قَوْمَهُ اُفْتُتِنُوا مِنْ بَعْدِهِ وَعَبَدُوا الْعِجْلَ فَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ مَا لَحِقَهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ وَمُعَايَنَتِهِ مِنْ إلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ وَكَسْرِهَا لِقُوَّةِ الْمُعَايَنَةِ عَلَى الْخَبَرِ . وَهَذَا
إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيهِ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِخَبَرِ اللَّهِ لَهُ ، وَلَكِنْ طَلَبَ أَفْضَلَ الْمَنَازِلِ وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ .
قَالُوا : وَلِلْيَقِينِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ ، أَوَّلُهَا السَّمْعُ ، وَثَانِيهَا الْعَيْنُ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعَيْنِ الْيَقِينِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَأَكْمَلُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا .
قَالُوا : وَأَيْضًا فَالْبَصَرُ يُؤَدِّي إلَى الْقَلْبِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ مِرْآةُ الْقَلْبِ يَظْهَرُ فِيهَا مَا يُحِبُّهُ مِنْ الْبُغْضِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ ، وَالسُّرُورِ وَالْحُزْنِ ، وَأَمَّا الْأُذُنُ فَلَا تُؤَدِّي عَنْ الْقَلْبِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا مَرْتَبَتُهَا الْإِيصَالُ إلَيْهِ حَسْبُ ، فَالْعَيْنُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِهِ .
قَالَ : وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ خَاصِّيَّةٌ فَضَلَ بِهَا الْآخَرَ ، فَالْمُدْرَكُ بِالسَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ ، وَالْمُدْرَكُ بِالْبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ . فَالسَّمْعُ لَهُ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ ، وَالْبَصَرُ لَهُ الظُّهُورُ وَالتَّمَامُ وَكَمَالُ الْإِدْرَاكِ .
وَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَشَيْئَانِ :
أَحَدُهُمَا النَّظَرُ إلَى اللَّهِ .
وَالثَّانِي : سَمَاعُ خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ كَمَا رَوَاهُ
الْإِمَامُ بْنُ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ : كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إذَا سَمِعُوهُ مِنْ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَامَهُ عَلَيْهِمْ وَخِطَابَهُ لَهُمْ وَمُحَاضَرَتَهُ إيَّاهُمْ كَمَا فِي
التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ قَطُّ ، وَلَا يَكُونُ أَطْيَبَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا . وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ فِي وَعِيدِ أَعْدَائِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ أَصْحَابُهُ عَنْهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ ، فَكَلَامُهُ وَرُؤْيَتُهُ أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
[ ص: 79 ] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ : وَاخْتَلَفَ النُّظَّارُ فِي الضَّرِيرِ وَالْأَطْرَشِ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْكَمَالِ وَأَقَلُّ اخْتِلَالًا لِأُمُورِهِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ أَكْمَلُ ، صِفَةِ السَّمْعِ أَوْ صِفَةِ الْبَصَرِ ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَا قَدَّمْنَا وَأَنَّهُ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ كَانَ أَكْمَلَ فَالضَّرَرُ بِعَدَمِهَا أَقْوَى .
ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ : عَادِمُ الْبَصَرِ أَشَدُّهُمَا ضَرَرًا ، وَأَسْلَمُهُمَا دِينًا وَأَحْمَدُهُمَا عَاقِبَةً . وَعَادِمُ السَّمْعِ أَقَلُّهُمَا ضَرَرًا فِي دُنْيَاهُ ، وَأَجْهَلُهُمَا بِدِينِهِ ، وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً ، فَإِنَّهُ إذَا عَدِمَ السَّمْعَ عَدِمَ الْمَوَاعِظَ وَالنَّصَائِحَ ، وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ ، وَانْفَتَحَ لَهُ طُرُقُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْبَصَرُ ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَكُفُّهُ عَنْهَا . فَضَرَرُهُ فِي دِينِهِ أَكْثَرُ ، وَضَرَرُ الْأَعْمَى فِي دُنْيَاهُ أَكْثَرُ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَطْرَشُ ، وَكَانَ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ أَضِرَّاءُ ، وَقَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالطَّرَشِ ، وَيَبْتَلِي كَثِيرًا مِنْهُمْ بِالْعَمَى .
فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَمَضَرَّةُ الطَّرَشِ فِي الدِّينِ ، وَمَضَرَّةُ الْعَمَى فِي الدُّنْيَا ، وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُمَا وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ ، وَجَعَلَهُ الْوَارِثَ مِنْهُ . انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَلْبَ
nindex.php?page=treesubj&link=19891أَفْضَلُ الْجَوَارِحِ ، إذْ هُوَ الْمَلِكُ ، ثُمَّ اللِّسَانَ ، ثُمَّ السَّمْعَ لِسَعَةِ إدْرَاكِهِ ، ثُمَّ الْبَصَرُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَخِيرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا فِيمَا عَلِمْنَا . وَلِذَا يُلْحَقُ مَنْ عَدِمَ الْبَيَانَيْنِ بَيَانَ اللِّسَانِ وَبَيَانَ الْجِنَانِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ ، بَلْ هِيَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُ ، وَإِنْ عَدِمَ بَيَانَ اللِّسَانِ وَحْدَهُ عَدِمِ خَاصِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَهِيَ النُّطْقُ وَاشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ ، وَعَظُمَتْ حَسْرَتُهُ فَطَالَ تَأَسُّفُهُ عَلَى رَدِّ الْجَوَابِ وَرَجْعِ الْخِطَابِ ، فَهُوَ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي يَرَى مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إلَيْهِ . فَجَلَّ شَأْنُ اللَّهِ كَمْ لَهُ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى عِبَادِهِ سَابِغَةٍ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى وَالْمَنَافِعِ ، فَحِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ بَالِغَةٌ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ قَلَّ أَنْ تَعْثُرَ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .