مطلب : في قوله صلى الله عليه وسلم } لا يصلح الكذب إلا في ثلاث بغير خداع الكافرين بحربهم وللعرس أو إصلاح أهل التنكد ( بغير ) أحد ثلاثة مواضع : {
الأول إذا كان بغير ( خداع الكافر ) وتقدم أن الخداع إرادة المكروه بالإنسان من حيث لا يعلم ، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 135 ] { } والكافرين جمع كافر من الكفر وهو ضد الإيمان وبفتح كالكفور والكفران بضمهما وكفر نعمة الله وبها كفورا وكفرانا جحدها وسترها ( بحربهم ) أي في أمر حربهم وجهادهم وما يتوصل به إلى خذلانهم وفشلهم . الحرب خدعة
( و ) الموضع الثاني إذا كان لغير ( العرس ) يعني وهي بكسر العين قال في القاموس : العرس بالكسر امرأة الرجل ورجلها جمعه أعراس .
والموضع الثالث : ما أشار إليه بقوله ( أو ) يكون الكذب لغير ( إصلاح ) ذات بين ( أهل التنكد ) بما يذهب وغر صدورهم ويجمع شملهم ويضم جماعتهم ويزيل فرقهم .
والإصلاح ضد الإفساد . قال في القاموس : الصلاح ضد الفساد ، وأصلحه ضد أفسده ، والتنكد التعاسر . قال في القاموس : تناكدا تعاسرا .
وناكده عاسره ، وأصل النكد الشدة والعسرة ، يقال نكد كفرح ، ورجل نكد شوم ، وقوم أنكاد ومناكيد . وأما قول كعب رضي الله عنه من بانت سعاد : قامت فجاوبها نكد مثاكيل ، فالمراد بالنكد في كلامه اللاتي لا يعيش لهن ولد ، الواحدة نكدى كما قاله الإمام ابن هشام .
روى الترمذي وحسنه عن رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أسماء بنت يزيد } قال لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : الرجل يكذب في الحرب والحرب خدعة ، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما ، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذاك الإمام بن مفلح في الآداب الكبرى : ويحرم وقال الكذب لغير إصلاح وحرب وزوجة ابن الجوزي : وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان ذلك المقصود مباحا ، وإن كان واجبا فهو واجب .
قال ابن مفلح : وهو مراد الأصحاب . ومرادهم هنا لغير حاجة وضرورة فإنه يجب الكذب إذا كان فيه عصمة مسلم من القتل . وعند يحرم أيضا لكن يسلك أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما . أبي الخطاب
وقال : هو حسن حيث جاز لا إثم لي فيه ، وهو قول أكثر العلماء . ابن عقيل
وقال الإمام المحقق ابن القيم في الهدي : يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب ، وأما ما [ ص: 136 ] نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب ، لا سيما تكميل الفرح وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب ، وكان الكذب سببا في حصول المصلحة الراجحة .
قال ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعمال الحق .
كما أوهم سليمان بن داود عليهما السلام إحدى المرأتين بشق الولد نصفين حتى يتوصل بذلك إلى معرفة عين أمه . انتهى . وقصة الحجاج بن علاط كما ذكرها الإمام المحقق في الهدي النبوي وابن هشام في السيرة وأهل السير والمغازي وذكرتها في كتابي تحبير الوفا في سيرة المصطفى ، قال في الهدي : وكان الحجاج بن علاط السلمي قد أسلم وشهد فتح خيبر وكانت تحته شيبة أخت بني عبد الدار قصي .
أي وهو أبو نصر الذي نفاه رضي الله عنه لما سمع عمر أم الحجاج بن يوسف الثقفي تقول الأبيات التي منها :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
قثم شبيه ذي الأنف الأشم فمتى ذي النعم يرغم من رغم
وفي سيرة الشامي أنه اعتنقه وأعتقه . فلما أخبره بالذي قال قال لله علي عتق عشر رقاب وأن الغلام اسمه العباس أبو زبيبة .
قال ولم أر له ذكرا في الإصابة . انتهى . قال في الهدي : قال أخبرني ، قال يقول لك اخل به في بعض بيوتك حتى يأتيكم ظهرا ، فلما جاء الحجاج واختلى به أخذ عليه لتكتمن [ ص: 138 ] خبري . وفي سيرة الشامي فناشده الله لتكتم عني ثلاثة أيام ، ويقال يوما وليلة ، فواثقه الحجاج رضي الله عنه على ذلك . فقال له العباس قد افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاج خيبر وغنم أموالهم وجرت فيها سهام الله ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه وأعرس بها ، ولقد أسلمت ولكن جئت لمالي أردت أن أجمعه وأذهب به ، وإني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول فأذن لي ، فأخف علي ثلاثا ثم اذكر ما شئت . صفية بنت حيي
قال فجمعت له امرأته متاعه ثم انشمر راجعا ، فلما كان بعد ثلاث أتى امرأة العباس فقال ما فعل زوجك ؟ قالت ذهب ، وقالت لا يحزنك الله يا الحجاج أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك ، فقال أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحب ، فتح الله سبحانه على رسوله خيبر وجرت فيها سهام الله ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه ، وإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به . قالت : أظنك والله صادقا . قال فإني والله صادق والأمر على ما أقول . قالت فمن أخبرك بهذا ؟ قال الذي أخبرك بما أخبرك ثم ذهب .
قال : فلبس حلة له وتخلق أي تطيب وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى ابن إسحاق الكعبة فطاف ، فلما رأوه قالوا يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة . قال كلا والذي حلفتم به ، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على بنت ملكهم ، يعني ، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه . قالوا من جاءك بهذا الخبر ؟ قال الذي جاءكم بما جاءكم به ، ولقد دخل عليكم مسلما فأخذ ماله وانطلق ليلحق صفية بنت حيي بمحمد وأصحابه فيكون معه . قالوا يا لعباد الله انفلت عدو الله ، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن . قال في الهدي : ولقد سألني أن أكتم عليه ثلاثا لحاجة .
قال فرد الله تعالى ما كان بالمسلمين من كآبة وجزع على المشركين ، وخرج المسلمون من مواضعهم حتى دخلوا على فأخبرهم الخبر فأشرقت وجوه المسلمين . انتهى . العباس
وقوله كما أوهم سليمان بن داود عليهما السلام إحدى المرأتين . هذه القصة ذكرها الإمام بن القيم في كتابه الطرق الحكمية ، وهي أن امرأتين [ ص: 139 ] ارتفعتا إلى نبي الله داود عليه السلام ادعتا ولدا معهما ، فحكم به داود عليه السلام للكبرى ، فقال سليمان ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فسمحت الكبرى بذلك ، وقالت الصغرى لا تفعل رحمك الله هو ابنها ، فقضى به للصغرى .
قال في الطرق الحكمية : فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة ، فاستدل برضى الكبرى بذلك وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها ، وشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك دل على أنها هي أمه . وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم . انتهى .