الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من هذا الأصل الذي عليه مدار الرضاع وبه يعتبر حكماه في التحريم والمحرم ، فانتشارهما من جهة المرضعة متفق عليه ، وانتشارهما من جهة الفحل مختلف فيه ، فمذهب الشافعي وما عليه الأكثرون أن ثبوت الحرمة وانتشارها من جهة الفحل في التحريم والمحرم كثبوتها ، وانتشارها من جهة المرضعة وبه قال من الصحابة : علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعائشة رضوان الله عليهم ومن التابعين عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، ومن الفقهاء : أبو حنيفة ومالك والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأحمد وإسحاق ، وذهبت طائفة إلى أن الفحل لا ينتشر عنه حرمة الرضاع ، ولا يثبت من جهته تحريم ، ولا محرم ، ويجوز له أن ينكح المرتضعة بلبنه ، وكذلك ولده من غير المرضعة ، وبه قال من الصحابة : ابن عمر ، وابن الزبير ، ورافع بن خديج رضي الله تعالى عنهم ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، ومن الفقهاء النخعي ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وحماد بن أبي سليمان ، والأصم وابن علية ، وأبو عبد الرحمن الشافعي ، وداود بن علي ، وأهل الظاهر ، وجعله داود مقصورا على الأمهات والأخوات استدلالا بقول الله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] فخصهما بذكر التحريم ، ثم قال من بعد وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] فدل على إباحة من عداهما وادعوا في ذلك إجماع الصحابة ، وهو ما روي أن عبد الله بن الزبير خطب زينب بنت أبي سلمة من أمها أم سلمة لأخيه حمزة بن الزبير ، فقالت : كيف أزوجها به وهو أخوها من الرضاعة ؟ فقال عبد الله : ذاك لو أرضعتها الكلبية ، وذلك أن عبد الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر ، وحمزة بن الزبير أمه الكلبية ، وكانت أسماء قد أرضعت زينب بنت أبي سلمة فصارت زينب أختا لعبد الله من أبيه وأمه ، وأختا لحمزة من أبيه دون أمه فجعلها عبد الله أختا لنفسه ، ولم يجعلها أختا لأخيه حمزة ، ولا جعل اللبن لأبيه الزبير ، وقال لأم سلمة : سلي الصحابة ، فسألوا ، وذلك في أيام الحيرة فأباحوها له ، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم فزوجت به ، وكانت عنده إلى أن مات [ ص: 359 ] فصار إجماعا ؛ ولأن الفحل لو نزل له لبن فأرضع به ولد لم يصر له أبا فلأن لا يصير أبا له بلبن غيره أولى ، ولأن اللبن لو كان لهما لكان إذا أرضعت به ولدا يكون أجرة الرضاع بينهما ، فلما اختصت المرضعة بالأجرة دون الفحل دل على أن اللبن لها لا للفحل ، ولأن الرضاع لما اختص ببعض أحكام النسب لضعفه وجب أن يختص بالمرضعة لنفسه . ودليلنا قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ النساء : 23 ] إلى قوله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] ومن الآية دليلان ، وينفصل بهما عن استدلالهم بها ، أحدهما : أنه نص على الأمهات تنبيها على البنات ، ونص على الأخوات تنبيها على الخالات والعمات اكتفاء بما تقدم تفصيله . والثاني : أن قوله وأخواتكم عموم يتناول الأخوات من الأم ، والأخوات من الأب فلم يقتض الظاهر تخصيص أحدهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، وتحريم النسب عام في جهة الأبوين ، فكذلك تحريم الرضاع . وروى هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل علي أفلح أخو أبي قعيس بعدما نزلت آية الحجاب ، فاستترت منه فقال : تستترين مني وأنا عمك ، فقالت من أين ؟ فقال : أرضعتك امرأة أخي فقالت : إنما أرضعتني امرأة ولم يرضعني رجل ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثه ، فقال : إنه عمك فليلج عليك . وهذا نص . ومن طريق المعنى أن كل من حرم بالنسب حرم بالرضاع كالأم ، وهذا مما وافق فيه لفظ السنة معناها ؛ ولأن المولود مخلوق من مائهما ، فكان الولد لهما وإن باشرت الأم ولادته فاقتضى أن يكون اللبن الحادث عنه لهما ، وإن باشرت الأم رضاعه ، وإذا كان اللبن لهما وجب أن تنتشر حرمته إليهما ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه الرضاع في التحريم بالنسب ، وأحكام النسب تنقسم ثلاثة أقسام : قسم يختص بعمودي النسب الأعلى ، وهم الوالدان ، والأسفل وهم المولودون ولا يتجاوزهما إلى ما تفرع عليهما ، وذلك وجوب النفقة وسقوط القود ، والعتق بالملك والمنع من الشهادة . وقسم يختص بالنسب إلى حيث ما انتشر وتفرع وذلك الميراث . وقسم يختص بذي الرحم من ذوي الأرحام ، وذلك تحريم المناكح . فلما لم يلحق الرضاع بالقسم الأول في اختصاصه بعمودي النسب لتحريم الأخوات ، ولم يلحق بالقسم الثاني في اختصاصه بما تفرع على النسب لإباحة بنات [ ص: 360 ] الأعمام والعمات ثبت لحوقه بالقسم الثالث في اختصاصه بذي الرحم والمحرم . فأما الجواب عن ادعائهم الإجماع فقد خالف فيه علي ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومع خلافهما يبطل الإجماع مع كون القياس معهما به . وأما الجواب بأن الفحل لو أرضع بلبنه لم يحرم ، فهو أنه لبن لم يخلق منه المولود فلذلك لم يتعلق عليه التحريم ، وجرى مجرى غيره من الألبان والأغذية ، وخالف فيه لبن المرأة المخلوق لغذاء المولود . وأما الجواب عن قولهم : لو كان اللبن لهما لكانت أجرة الرضاع بينهما فهو أن أصحابنا قد اختلفوا في أجرة الرضاع إلى ماذا ينصرف على وجهين : أحدهما : إلى الحضانة ، والرضاع تبع ، فعلى هذا يسقط الاستدلال . والوجه الثاني : إلى اللبن ، والحضانة تبع ، فعلى هذا : الأجرة مأخوذة على فعل الرضاع ؛ لأنه مشاهد معلوم ، وليست مأخوذة ثمنا للبن للجهالة به ، وفقد رؤيته ، ومن أصحابنا من جعلها ثمنا للبن ، وجعلها أحق به ، وإن اشتركا في سببه ؛ لأنها مباشرة كرجلين اشتركا في حفر بئر فاستقى أحدهما من مائها كان أحق بما استقاه لمباشرته ، وأما الجواب عن قولهم : إن اختصاصه ببعض أحكام النسب لضعفه يقتضي اختصاصه ببعض جهاته فهو أنه لما شارك النسب في التحريم وجب أن يشاركه في غير التحريم ، ويغلب ذلك دليلا عليهم ، فيقال لهم : لما كان المرتضع موافقا للمولود في الرضاع ومفارقا له في الولادة اقتضى أن يسلب بفقد النسب الواحد ما تعلق لسبب واحد والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية