الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا استقر ثبوت الأحكام الخمسة باللعان ، فنفي النسب مختص بلعان الزوج وحده ، واختلفوا في الفرقة بماذا تقع ؟ على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي أنها تقع بلعان الزوج وحده وكذلك الأحكام [ ص: 52 ] الخمسة ، وإنما يختص لعان الزوجة بإسقاط الحد عنها لا غير ، وأن حكم الحاكم بالفرقة يكون تنفيذا ولا يكون إيقاعا .

                                                                                                                                            وقال مالك ، وربيعة ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وداود : إن الفرقة تقع بلعان الزوجين ولا تقع بلعان أحدهما ، ويكون حكم الحاكم بالفرقة تنفيذا لا إيقاعا ، فخالفوا الشافعي في وقوع الفرقة بلعانهما ووافقوه في أن حكم الحاكم بها تنفيذ وليس بإيقاع .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الفرقة لا تقع إلا بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما ، فيكون حكم الحاكم بها إيقاعا لها لا تنفيذا ، ويكون إيقاعه الفرقة بينهما واجبا عليه ، واستدلوا جميعا على أن الفرقة لا تقع بلعان الزوج وحده بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين الزوجين وفرق بينهما ، فلما فرق بينهما بعد لعانهما دل على أنها لا تقع بلعان أحدهما ، وجعل مالك حكمه بالفرقة بعد لعانهما تنفيذا ، وجعله أبو حنيفة إيقاعا ، ولأن العجلاني قال : إن أمسكتها فقد كذبت عليها وهي طالق ثلاثا ، ولو وقعت الفرقة بلعانه لأنكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله من إمساكها ، وما أوقعه من طلاقها ، وفي إقراره على ذلك دليل على أن الفرقة لم تقع بينهما ، واستدل أصحاب أبي حنيفة بأنها فرقة لا يثبت سببها إلا عند الحاكم ، فلم تقع بينهما إلا بحكم الحاكم ، كالعنة التي لم يثبت سببها في ضرب المدة إلا بحكم الحاكم ، ولم تقع الفرقة فيها إلا بحكم ، ولأن اللعان سبب يخرج به القاذف من قذفه فوجب أن لا تقع الفرقة إلا بحكم كالبينة .

                                                                                                                                            ولأن الفرقة لا تقع إلا بما يختص بألفاظها من صريح أو كناية ، وليس في اللعان صريح ولا كناية ، ودليلنا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للعجلاني حين عرض عليه اللعنة الخامسة بعد الشهادات الأربع : " إنها الموجبة " إبانة عنها في وقوع أحكام اللعان بها ، فدل ثبوتها بلعان الزوج وحده ، وهذا دليل على جماعتهم .

                                                                                                                                            وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا .

                                                                                                                                            وقد روى أبو مالك ، عن عاصم ، عن زر ، عن علي ، وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان أبدا . وذلك إشارة إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجعل لغيرهما تأثيرا في وقوع الفرقة بينهما . وهذا يدفع قول أبي حنيفة ، وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمتلاعنين : " حسابكما على الله ، لا سبيل [ ص: 53 ] لك عليها " قال : يا رسول الله ، مالي ؟ قال : " لا مال لك ، إن كنت صادقا فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كاذبا فهو أبعد لك " . فكان قوله : لا سبيل لك عليها إخبارا عن وقوع الفرقة بينهما ، وليس بإيقاع للفرقة ، لأن إيقاع الفرقة أن يقول : " قد فرقت بينكما " فدل ما أخبر به من وقوع الفرقة على تقدمها قبل خبره ، ويدل عليه من طريق المعنى أنها فرقة تجردت عن عوض ، فإذا لم يجز تفرد الزوجة بها جاز أن ينفرد الزوج بها كالطلاق ، ولأنه قول يمنع إقرار الزوجين على الزوجية ، فوجب أن يكون حكم الحاكم فيه تنفيذا لا إيقاعا كالبينة على الطلاق والإقرار به ، ولأن الأقوال المؤثرة في الفرقة لا يفتقر إلى وجودها من جهتها كالطلاق ، ولأن اللعان يمين عندنا وشهادة عند أبي حنيفة ، والحكم بكل واحد منه بتنفيذ وليس بإيقاع ، ولأن حكم التنفيذ يجوز من غير طلب كالحاكم بشهادة أو يمين ، وحكم الإيقاع لا يجوز إلا بعد الطلب كالفسخ في العنة والإعسار بالنفقة ، وفرقة اللعان لا تفتقر إلى طلب فدل على اختصاصها بالتنفيذ دون الإيقاع ، ولأن اللعان تقع به الفرقة ، وينتفي به النسب ، فلما اختص نفي النسب بلعان الزوج وجب أن يكون وقوع الفرقة بمثابته ؛ لأنه أحد حكمي اللعان .

                                                                                                                                            فإن منعوا من نفي اللعان النسب بلعان الزوج وحده ، وادعوا أنه لا ينتفي إلا بالحكم بعد لعانهما . كان فاسدا من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن لعان الزوج يتضمن نفي النسب ، ولعان الزوجة يتضمن إثبات النسب ، وإذا اختلفا في النفي والإثبات لم يجز أن يتعلق نفيه إلا بقول النافي دون المثبت اعتبارا بالموافقة .

                                                                                                                                            والثاني : أن الاعتبار في ثبوت النسب ونفيه بالزوج دون الزوجة ؛ لأنه لو أقر به ونفته ، لم يؤثر نفيها ، ولو نفاه وأقرت به لم يؤثر إقرارها ، ولو استلحقه بعد نفيه بلعانهما ألحق به وإن أقامت على نفيه عنه ، فاقتضى بهذين أن يكون نفي النسب مختصا بلعان الزوج ، وإذا اختص به كانت الفرقة بمثابته ، وأما الجواب عن استدلالهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الزوجين بعد لعانهما ، فهو أنها قضية في عين لا يدعى فيها العموم فاحتمل أن يفرق بينهما في المكان ، واحتمل أن يفرق بينهما في النكاح ، ويحتمل وهو الأشبه أن يكون أخبرهما بوقوع الفرقة بينهما ؛ لأنه قد روي فيه : " وألحق الولد بأمه ، وقد كان لاحقا بها " وإنما أخبر بلحوقه بها دون الزوج ، وأما حديث العجلاني وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه وقوع الطلاق منه ، فقد أنكره بقوله : " لا سبيل [ ص: 54 ] لك عليها أبدا " ولو وقعت الفرقة بالطلاق لكان له عليها سبيل ، وأما قياسهم على العنة فالجواب عنه ، المعارضة في معنى الأصل من أحد وجهين .

                                                                                                                                            إما لأن الفرقة في العنة لا تمضي إلا بعد الطلب ، وفي اللعان تمضي بغير طلب فصارت تلك الفرقة إيقاعا وهذه تنفيذا .

                                                                                                                                            وإما لأن العنة يجوز إقرارهما عليها ، ولا يجوز إقرارهما بعد اللعان فصارت تلك الفرقة إيقاعا وهذه تنفيذا ، وهو جواب عن قياسهم على البينة ، وأما قولهم : إنه ليس بصريح ، ولا كناية فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ذلك مراعى في الطلاق دون غيره من الفسوخ .

                                                                                                                                            والثاني : أن اللعان صريح في أحكامه المختصة به .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية