الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ودليلنا السنة ، والإجماع ، والعبرة . فأما السنة : فروى الشافعي - رضي الله عنه - عن مالك - رضي الله عنه - عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنهم : أن سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة فقال سعد : إن أخي عتبة عهد إلي أنه كان ألم بها في الجاهلية ، وأن أطلبه إن دخلت مكة . فقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وفيه ثلاثة أدلة : أحدها : قول عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فجعلها فراشا لأبيه ، وجعل ولدها أخا له بالفراش ، فإن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على هذا دليل على ثبوته وصحته . والثاني : جواب النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكم به من قوله : " هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر " فجعلها فراشا وحكم به لعبد بن زمعة أخا وجعل الفراش مثبتا لنسبه . والثالث : أنه لما صارت الحرة فراشا بهذا الخبر وهو في الأمة دونها فلأن تصير به الأمة فراشا أولى ، لأن نقل السبب مع الحكم يمنع من خروج الحكم عن ذلك السبب إجماعا ، إنما الخلاف هل يكون مقصورا عليه أو متجاوزا له ؟ . [ ص: 155 ] اعترضوا على الاستدلال بهذا الخبر من خمسة أوجه : أحدها : أنه حكم به لعبد بن زمعة عبدا لا ولدا لأمرين : أحدهما : قوله لعبد بن زمعة : هو لك ، فهذه الإضافة تقتضي الملك دون النسب . والثاني : ما روي أنه قال : " هو لك عبد " . والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أن التنازع كان في نسبه دون رقه ، فكان الحكم مصروفا إلى ما تنازعا فيه . والثاني : أنه علل بالفراش ، والفراش علة في ثبوت النسب دون الرق .

                                                                                                                                            والثالث : أننا روينا أنه صلى الله عليه وسلم قال : هو لك يا عبد بن زمعة أخا " وما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم : " هو لك عبد " محمول على النداء ، كأنه قال : يا عبد فحذف حرف النداء إيجازا كما قال تعالى : ( يوسف أعرض عن هذا ) [ يوسف : 29 ] . يعني يا يوسف . والاعتراض الثاني : أن قالوا : دعوى النسب تصح من جميع الورثة ، ودعوى الملك تصح من بعضهم .

                                                                                                                                            وقد كان لزمعة ابن هو عبد المدعي ، وبنت هي سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولم تدع ، فدل على قصور الدعوى على الملك دون النسب . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه قد صرح في الدعوى بالنسب دون الملك . فقال : أخي وابن وليدة أبي ، فلم يجز أن يحمل على غيره . والثاني : أن تفرده بالدعوى مع إمساك سودة محتمل لأحد أمرين : إما لاستنابتها له لأنه ألحق بحجته ، وإما لأنه كان وارث أبيه دونها ؛ لأن زمعة مات كافرا وقد أسلمت سودة قبله وأسلم عبد بعده ، فورثه عبد دونها ، فلذلك تفرد بالدعوى . الاعتراض الثالث : أن قالوا : قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة أن تحتجب منه ، ولو كان أخا لها لما حجبها عنه ، فدل على أنه نفى نسبه ولم يلحقه . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه قد حكم لعبد بما ادعاه من نسبه ، والحكم بالدعوى محمول على إثباتها دون إبطالها . والثاني : أنه لو نفاه لأجرى عليه حكم الرق ، ولم يفعل ذلك . وأمره سودة بالاحتجاب عنه محمول على أحد وجهين : إما لأن يبين بذلك أن للزوج أن يحجب زوجته عن أقاربها ، فيصير ذلك منه ابتداء لبيان الحكم ، وإما لأنه رأى فيه شبها قويا من عتبة ، وقد نفاه الشرع عنه بالفراش الثابت لغيره ففعل ذلك إما بطريق الاستظهار ، وإما لأن ترى سودة ما فيه من الشبه بعتبة ، فترتاب في نسبه . [ ص: 156 ] والاعتراض الرابع : أن قالوا : قد أضمرتم في ثبوت نسبه الإقرار بالوطء وليس بمذكور ، ونحن شرطنا الإقرار بنسبه وهو مذكور ، فصار بأن يكون دليلا على ثبوت نسبه بالإقرار المذكور أولى من الوطء الذي ليس بمذكور . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن عبدا ادعى أخوته ؛ لأنه ولد على فراش أبيه ، فصار الفراش موجبا لثبوت النسب دون الإقرار ، والفراش لا يكون إلا بعد الوطء ، فصار ثبوت الفراش إقرارا بالوطء . والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سبب لحوق نسبه الفراش دون الإقرار ، فلم يجز أن يحمل على غير السبب الذي وقع به التعليل . والاعتراض الخامس : أن قالوا : إنما أثبت نسب الولد ، لأن أمه كانت أم ولد تصير فراشا بالولد الأول ولا يراعى إقراره بالولد الثاني . والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن إطلاق حكمه دليل أنه لا فرق بين الأمرين . والثاني : أنه لم يعرف لزمعة ولد غير عبد وسودة ، ولو كان لعرف فبطل هذا التأويل . وأما الدليل من طريق الإجماع : فهو ما رواه الشافعي رضي الله عنه ، عن مالك ، عن نافع ، عن صفية بنت أبي عبيد ، عن عمر رضي الله عنهم أنه قال : ما بال رجال يطئون ولائدهم ، ثم يرسلونهن ، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها ، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن .

                                                                                                                                            فنادى به في الناس فلم ينكره - مع انتشاره فيهم - أحد ؟ فصار إجماعا ، فإن قيل : خالفه زيد بن ثابت ؛ لأنه نفى حمل جارية له ، قيل : إنما نفاه ؛ لأنه قال : كنت أعزل عنها ، فدل على أنه مجمع معهم إذ لو لم يعزل كان لاحقا به ، وأما الدليل من طريق الاعتبار : فهو أنه وطء ثبت به تحريم المصاهرة فوجب أن يثبت به لحوق النسب كوطء الحرة ، ولأن كل ما يثبت بوطء الحرة ثبت بوطء الأمة كتحريم المصاهرة ، ولأن الإقرار بالوطء إقرار بالسبب ، والإقرار بالسبب إقرار بالمسبب : كالمقر بالشراء يكون مقرا بالتزام الثمن ؛ لأن العقد سبب بالمسبب لاستباحة الوطء ، فإذا ألحق بالسبب وهو العقد فأولى أن يلحق بالمسبب من الوطء ، ولأنه لما لحق بوطء الشبهة وهو حلال في الظاهر حرام في الباطن ، كان أولى أن يلحق بوطء الأمة الذي هو حلال في الظاهر والباطن ؛ ولأنهم قد ألحقوا به ولد الحرة مع عدم الوطء ونفوا عنه ولد الأمة مع وجود الوطء . وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر وهذا عكس المعقول وقلب للسنة [ ص: 157 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية