الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا هناد ) : بتشديد النون أي ابن السري كما في نسخة . ( أخبرنا أبو الأحوص ) : كذا وقع في أصل السماع بصيغة الإخبار ، وفي بعض النسخ بلفظ " حدثنا " مكتوبا عليه علامة صح ، ذكره ميرك ، وهو سلام بن سليم بالتخفيف في الأول وبالتصغير في الثاني ، ثقة ، متقن . ( عن أشعث بن أبي الشعثاء ) : بالشين المعجمة والثاء المثلثة فيهما . ( عن أبيه ) : أي أبي الشعثاء ، وهو سليم بن عامر ، أخرج حديثه البخاري في التاريخ ، والباقي في صحاحهم ، وغلط من قال إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم . ( عن مسروق ) : سرق في صغره فسمي به ، ثقة ، عابد ، مخضرم [ ص: 104 ] أخرج الأئمة حديثه . ( عن عائشة قالت : إن ) : مخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بين المخففة والنافية بعدها وضمير الشأن محذوف ، أي : إنه ، كذا قال الشراح ; ولما كان من المقرر أن جواز إعمال إن المخففة على قلة وإهمالها على الأكثر ، قال العصام : إن مخففة ، ملغاة ، داخلة على الفعل ، مستغنية عن الاسم ، فلا تظن أنه في تقدير إنه . ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحب التيمن ) : أي الابتداء في الأفعال باليد اليمنى والرجل اليمنى والجانب الأيمن على ما في النهاية ، ولعل وجه المحبة له أنه كان يحب الفأل الحسن ، وأصحاب اليمين أهل الجنة يؤتون كتبهم بأيمانهم ، ولمزية مزيد قوتها المقتضية لزيادة إكرامها بموجب العدل المنافي للظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه ، وزاد البخاري في رواية له ما استطاع فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع . ( في طهوره ) : بضم المهملة وفتحها ، روايتان مسموعتان بمعنى ، وهو مصدر مضاف إلى الفاعل ، المشهور أنه بالفتح ، اسم لما يتطهر به ، فيقدر مضاف أي استعماله ، قال : والصحيح أنه يجيء بالفتح مصدرا أيضا كما صرح به الأزهري وغيره من أهل اللغة ، وإنما قال : ( إذا تطهر ) : ليدل على تكرار المحبة بتكرار الطهارة كما في قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) الآية . كذا قال العصام : وفيه أن " إذا " في الآية للشرطية ، وفي الحديث لمجرد الظرفية ، والمعنى : في وقت اشتغاله بالطهارة ، وهو شامل للوضوء والغسل والتيمم ، وهذا بالنسبة ليديه بعد غسل الوجه دونهما أول الوضوء ، ولرجليه دون خديه وأذنيه ، ويستثنى من هذه المادة تطهير النجاسة الحقيقية على البدن أو غيره . ( وفي ترجله ) : بضم الجيم المشددة أي تمشيط شعر رأسه ولحيته . ( إذا ترجل ) : أي وقت إيجاد هذا الفعل وفي معناه التدهين . ( وفي انتعاله ) : أي لبس نعله . ( إذا انتعل ) : أي وقت إرادة لبس النعل ، وفيه احتزاز من حال الاختلاع فإنه يبتدئ باليسار تشريفا لليمين ومراعاة لكرامتها أيضا ، وفي معناه لبس الثوب والخف ونحوهما بل المراد أنه كان يحب التيمن في هذه الأشياء وأمثالها مما هو من باب التكريم : كالأخذ ، والعطاء ، ودخول المسجد والبيت ، وحلق الرأس ، وقص الشارب ، وتقليم الظفر ، ونتف الإبط ، والاكتحال ، والاضطجاع ، والأكل والشرب ، والاستياك بالنسبة إلى الفم واليد جميعا ، بخلاف ما لا شرف فيه كخروج المسجد ، ودخول الخلاء ، وأخذ النعل ، ونحو ذلك فإنه باليسار كرامة لليمين أيضا . قال النووي : قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزين وما كان بضده فاستحب فيه التياسر ، ويدل على العموم ما رواه الشيخان عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره وفي شأنه كله . وما في رواية النسائي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن يأخذ بيمينه ، ويعطي بيمينه ، ويحب التيمن في جميع أمره . ويدل على استثناء ما ليس من باب التكريم ما رواه أبو داود عن عائشة قالت : كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه ، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى . قال [ ص: 105 ] النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء على أن تقديم اليمنى في الوضوء سنة ، من خالفها فقد فاته الفضل وتم وضوءه . قال العسقلاني : مراده بالعلماء أهل السنة وإلا فمذهب الإمامية الوجوب وممن نسب الوجوب إلى الفقهاء الشيعة . وفي كلام الرافعي ما يوهم أن أحمد قال بوجوبه ولا يعرف ذلك عنه ، بل قال الشيخ الموفق في المغني : لا نعلم في عدم الوجوب خلافا . يعني من الأئمة الأربعة ، وغلط المرتضى علم الهدى فنسب الوجوب إلى الشافعي وكأنه ظن أن ذلك لازم من قوله بوجوب الترتيب لكنه لم يقل بذلك في اليدين والرجلين لأنهما بمنزلة العضو الواحد ولأنهما جمعا في لفظ القرآن ، لكن يشكل على أصحابه حكمهم على الماء بالاستعمال إذا انتقل من يد إلى يد مع قولهم أن الماء ما دام مترددا على العضو لا يسمى مستعملا ، انتهى كلامه . وفيه أن الترتيب إنما يفيد بين الأجناس المذكورة ، وأما الترتيب بين اليدين والرجلين فإنما هو مستفاد من هذا الحديث وأمثاله ، وفي أمثاله وقع الإجماع على استحباب التيامن دون وجوبه ، فبطل قول الشيعة وظهر مذهب أهل السنة ، وأما وجه عدم اعتبار غسل الوجه ومسح الرأس باليمين فلدفع الحرج والمشقة في تحقيق تيامنهما وتياسرهما كما في غسل اليدين ابتداء ومسح الأذنين ، قال الجزري في تصحيح المصابيح : يستثنى من تقديم اليمنى على اليسرى في الوضوء مسح الأذنين فلا يسن فيهما تقديمه على الصحيح . قال الماوردي : ليس في أعضاء الطهارة عضو لا يستحب تقديم الأيمن منهن في تطهيره إلا الأذنين . قال ميرك : وفي الأذنين وجه نقل عن البحر للروياني في تقديم مسح اليمنى من الأذن . أقول : يمكن الجمع بأنه لا يستحب إذا أراد الجمع بين مسحهما ويستحب حالة التفريق بينهما ، والله أعلم ، ثم قول العصام " إذا تنعل " ، وفي رواية " إذا انتعل " مخالف للأصول المصححة والنسخ المعتمدة في أنها من باب الافتعال المناسب لمصدره المذكور المتفق عليه ، ومما يدل على بطلان كلامه سكوت الشراح عن خلافه ، ثم قوله : وكأن الراوي لم يحفظ تتمة الحديث ، وهو وفي شأنه كله على ما في البخاري ومسلم مطعن مردود ، فإنه في غير محله لأن الحديث وقع في إسناد الترمذي بهذا المقدار ، ووقع في رواية الشيخين بالزيادة ، وزيادة الثقة مقبولة كما هو مقرر في الأصول مع أنه يجوز تقطيع الحديث وإتيان بعضه عند أكثر المحدثين ; وبهذا تبين ضعف قوله ، والمراد بالأمور الثلاثة هي مخصوصة بقرينة قوله : " وفي شأنه كله " ، فمن قال : المراد هذه الأمور لا بخصوصها بقرينة قوله : " وفي شأنه كله " ، استمد مما يفيد خلاف المقصود ، انتهى . وهو ظاهر البطلان لأن الحديث على ما وقع في الصحيحين لا خلاف فيه أنه من باب تعميم بعد تخصيص ، وأما على رواية الترمذي فظاهر الانحصار في الأمور الثلاثة لكن المراد به الأعم بقرينة حديثهما مع أنه لو لم يكن حديثهما لكان فيه ما يستفاد منه العموم أيضا ; لأن المذكورات هي جزئيات كالأمثلة تحت القاعدة الكلية المستفادة من قولها يحب التيمن ، هذا وذكر ميرك أنه وقع في صحيح البخاري من طريق شعبة عن الأشعث بإسناده بلفظ : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله . كذا [ ص: 106 ] أكثر الروايات بغير واو ، ولبعض رواية " وفي شأنه كله " بالواو اعتمد عليها صاحب العمدة ، قال ابن دقيق العيد : هو عام مخصوص ; لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيها بالتياسر ، انتهى . أقول : وهذا مستدرك لأن الكلية على حالها بالنسبة إلى كرامة اليمنى كما قدمناه ، قال ميرك : ويمكن أن يقال ما استحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي متروكات ، وما كانت غير مقصودة فكأنها ليست بشأن عرفا . قلت هذا غير كفاية ; لأنه يبقى نحو : الاستنجاء ، ومس الذكر ، وإزالة القاذورات ، وأخذ النعل ، وأمثال ذلك ، قال ميرك : قوله " في شأنه كله " بغير واو على رواية الأكثر متعلق بيعجبه أي في جميع أحوال التيمن أو في جميع أحواله بمعنى أنه لا يتركه حضرا ولا سفرا ولا في فراغه ولا في شغله ونحو ذلك . وقال الطيبي : " في شأنه " بدل من قوله " في تنعله " بإعادة العامل ، وكأنه ذكر النعل لتعلقه بالرجل والترجل لتعلقه بالرأس والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة ، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل . أقول : فرواية الترمذي للتدني ، ورواية الشيخين للترقي مع زيادة إفادة العموم تأكيدا ، قال ميرك : ووقع في رواية مسلم بتقديم " في شأنه كله " على قوله " في تنعله " فيحتمل أنه بدل الكل أيضا بالتأويل المذكور أو هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بشأن تلك الأمور ، انتهى . والأخير غير صحيح إذ لم يكن التخصيص إلا بالعطف ولا يعرف مجيء البدل بهذا المعنى ، قال ميرك : وجميع ما قدمناه مبني على ظاهر السياق المذكور ، ولكن بين البخاري في كتاب الأطعمة من صحيحه أن الأشعث شيخ شعبة كان يحدث به تارة مقتصرا على قوله " في شأنه كله " وتارة على قوله " في تنعله " إلى آخره ، وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن عائشة أيضا أنها كانت تجمله تارة وتبينه أخرى . قال العسقلاني : فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره ، وتكون الرواية المقتصرة على شأنه كله من الرواية بالمعنى ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن الأشعث بدون قوله " في شأنه كله " ، انتهى . وبهذا ظهر سقوط كلام العصام وهو معذور فإنه دخيل في هذا الباب ، والله الملهم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية