الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا ) : وفي نسخة " ثنا " . ( أبو عمار ) : بفتح مهملة فتشديد ميم . ( الحسين بن حريث ) : بضم مهملة [ ص: 78 ] وفتح راء وسكون ياء ومثلثة . ( الخزاعي ) : نسبة إلى خزاعة ، بضم معجمة ، ثقة ، أخرج حديثه الشيخان وغيرهما . ( أنا ) : أي أخبرنا كما في نسخة صحيحة . ( علي بن حسين بن واقد ) : بكسر القاف ، صدوق يهم ، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد والأئمة الأربعة في سننهم . ( حدثني أبي ) : أي حسين بن واقد . ( حدثني عبد الله بن بريدة ) : أي ابن الحصيب الأسلمي المروزي ، أخرج حديثه الأئمة الستة في سننهم ، وبريدة بالتصغير ، وكذا الحصيب . ( قال ) : أي عبد الله . ( سمعت أبي ) : وهو صحابي سكن المدينة ثم البصرة ثم مرو ، وتوفي بها . ( بريدة ) : بالنصب على أنه عطف بيان لقوله أبي أو بدل منه . ( يقول ) : أي بريدة . ( جاء سلمان الفارسي ) : بكسر الراء وفي لسان الفارسي بسكون الراء وهو لحن أو محمول على تغيير النسب ، قيل : نسبة إلى كورة فارس ; لأنه من رام هرمز بلدة بين تستر وشيراز وهي من أعمال فارس ، وسمي الفارس فارسا ; لأن أهله كانوا فرسانا ، وقيل : لأنهم منسوبون إلى فارس بن كيومرث ، وفي شرح : أنه معرب بارس بسكون الراء ، وسلمان من أصفهان ، ولا تعلق له بفارس إلا أن العرب كانوا يسمون ما تحت ملوك العجم كله فارسا وأصفهان كان منها ولم يعلم اسم أبي سلمان ، وسئل عن نسبه فقال : أنا سلمان بن الإسلام ، ويقال : سلمان الحبر بالمهملة فالموحدة ، وقيل بالمعجمة والتحتية ، وهو أحد الذين اشتاقت إليهم الجنة ، وهو صحابي كبير ، قيل : عاش مائتين وخمسين ، وقيل : ثلثمائة وخمسين ، والأول أصح ، وقال أبو نعيم : أدرك عيسى عليه السلام ، وقرأ الكتابين ، وكان عطاؤه خمسة آلآف يفرقه ، ويأكل من كسب يده بعمل الخوص ، وله مزيد اجتهاد في الزهد فإنه مع طول عمره المستلزم لزيادة الحرص لم يزدد إلا زهدا ، وسئل علي كرم الله وجهه عنه فقال : علم العلم الأول والعلم الآخر وهو بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت ، قيل هرب من أخيه وكان مجوسيا فلحق براهب ثم بجماعة رهبان في القدس الشريف ، وكان في صحبتهم إلى وفاة أخيرهم ، فدلهم الحبر إلى الحجاز وأخبره بظهور النبي صلى الله عليه وسلم ، فقصد الحجاز مع جمع من الأعراب ، فباعوه في وادي القرى من يهودي ثم اشتراه منه يهودي آخر من قريظة ، فقدم به المدينة ، فأقام بها حتى قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الراهب قد وصف له بالعلامات الدالة على النبوة فجاء . ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي في السنة الأولى من الهجرة . ( حين قدم ) : بكسر الدال ، ظرف لجاء ، أي : حين أوقات قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( المدينة بمائدة ) : باؤه لتعدية جاء ولا يبعد جعلها للمصاحبة [ ص: 79 ] خلافا لابن حجر ، بل هي أظهر هنا لزيادة الإفادة ، كما لا يخفى ، بل هي متعينة لرواية ( فاحتملتها على عاتقي ) ; ولذا اختارها ميرك وجوز التعدية ، والمشهور عند أرباب اللغة أن المائدة خوان عليه طعام ، فلا يسمى مائدة ، فعلى هذا قوله . ( عليها رطب ) : لتعيين ما عليها من الطعام بناء على أن القول بأن الرطب طعام ، وعلى القول بأنه من الفواكه وليس بطعام استعيرت المائدة هنا للظرف أو استعملت للخوان على وجه التجريد ، ففي الصحاح أن الطعام ما يؤكل ، قال صاحب المحكم : المائدة نفس الخوان ، وقال العسقلاني : قد تطلق المائدة على كل ما يوضع عليه الطعام ; لأنها مما تميد أي تتحرك ، ولا تختص بوصف مخصوص أي ليس بلازم أن تكون خوانا . ( فوضعها ) : أي المائدة . ( بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : قال العراقي في شرح تقريب الأسانيد : اعلم أن ظاهر هذه الرواية أن ما أحضره سلمان كان رطبا فقط ، وروى أحمد والطبراني بإسناد جيد من حديث سلمان نفسه أنه قال : فاحتطبت حطبا فبعته فصنعت طعاما فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم . وروى الطبراني أيضا بإسناد جيد : فاشتريت لحم جزور بدرهم ، ثم طبخته فجعلت قصعة ثريد فاحتملتها على عاتقي ، ثم أتيت بها ووضعتها بين يديه . فلعل المائدة كان فيها طعام ورطب ، وأما ما رواه الطبراني من حديث سلمان أيضا أنها تمر فضعيف ، قلت : ولا منع من الجمع بين الثلاثة لو صحت الرواية ، ولعل الاكتفاء بالرطب في هذا الحديث ; لأن معظم الطعام كان رطبا ، وأما قول ابن حجر : لاحتمال تعدد الواقعة ، فبعيد جدا لما سيأتي من أنه جاء الغد بمثله . ( فقال : يا سلمان ) : يحتمل أن يكون هذا أول ملاقاته ، وعلم اسمه بفيضان أنوار النبوة أو بإخبار جبريل أو بسؤاله إياه عن اسمه أولا أو بإخبار بعض من حضر مجلسه الشريف ممن عرف سلمان ، ويحتمل أن يكون لقيه من قبل ذلك وعرفه . ( ما هذا ؟ ) : أي المأتي الذي أتيته [ ص: 80 ] أو الذي وضعته بين يدي ، وهو أولى مما قاله ابن حجر ، وعليه اقتصر أي الرطب إذ هو المقصود دون المائدة ، ولذا لم يقل " ما هذه ؟ " ووجه الأولوية إفادة العموم ، واحتمال أن تكون المائدة مغطاة ، وعلى كل تقدير فالمقصود بالسؤال الغرض الباعث له على إتيانه ووضعه . ( فقال ) : أي هذا وهذه . ( صدقة عليك وعلى أصحابك ) : قال شارح : إن الصدقة منحة يمنحها المانح طلبا لثواب الآخرة وتكون من الأعلى إلى الأدنى ، ففيه نوع من رؤية تذلل للآخذ والترحم عليه ، والهدية منحة لا يرى فيها تذلل الآخذ بل يطلب بها التحبب إلى الآخذ والتقرب إليه ، قال العصام : فمفهوم الصدقة مشعر بأنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والصدقة محرمة فرضها وتطوعها عليه وعلى آله ، فمن جعل علة التحريم أنها أوساخ الناس جعلها محرمة على آل محمد أبدا ، ومن جعل علة تحريمها دفع التهمة عنه عليه السلام أنه لم يعط حق الفقراء لم يجعلها بعده محرمة عليهم ، وإليه ذهب جماعة من متأخري الشافعية وكذا جماعة من متأخري أصحابنا الحنفية وبعض المالكية . ( فقال ارفعها ) : أي المائدة أو الصدقة من بين يدي أو عني لرواية أحمد والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : كلوا ، وأمسك يده فلم يأكل ، قال العراقي : فيه تحريم صدقة التطوع على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح المشهور ، قال ميرك : وفيه تأمل لاحتمال امتناعه وجوبا أو تنزها . ( فإنا ) : أي نحن معاشر الأنبياء أو أنا وأقاربي من بني هاشم والمطلب أو الضمير للعظمة . ( لا نأكل الصدقة ) : ولا يصح أن يراد بالمتكلم مع الغير نفسه وأصحابه ; إذ لم يقل أحد بتحريم الصدقة على أصحابه اللهم إن كان أصحابه الحاضرون عنده عشيرته الأقربين ، ويحمل حينئذ أمره بالأكل لبعض أصحابه الذين حضروه بعد ذلك جبرا لخاطر سلمان ، قال ابن حجر : قوله " الصدقة " أي الزكاة ، ومثلها كل واجب ككفارة ونذر لحرمة ذلك عليه وعلى آله ، فإن أريد بها ما يعم المندوبة أيضا كانت النون للتعظيم لحرمة الصدقة عليه دون قرابته ، وزعم أن الامتناع لا يدل على التحريم ، ليس في محله لأن الأصل فيه ذلك ، انتهى . وفيه أنه لا معنى لقوله فإن أريد بها ما يعم المندوبة فإن هذه الإرادة متعينة ليصح التعليل عن امتناع أكل تلك الصدقة فإنها مندوبة ، وإذا كان كذلك وقد اختلفوا في تحريم صدقة التطوع واستدل بعضهم بهذا الحديث على التحريم ، فللمانع أن يقول هذا مع وجود الاحتمال لا يصلح للاستدلال ، ودعوى أن الأصل في الامتناع هو التحريم ممنوعة أيضا ; إذ لا دليل عليه عقلا ولا نقلا ، وأغرب العصام فقال : إنما أمر برفعها مطلقا ولم يأكل أصحابه ; لأنه تصدق على النبي وأصحابه فلم يصح أكل أصحابه منه ، فما روي أنه قال لأصحابه فتوجيهه أنهم أكلوه بعد جعل سلمان كله صدقة على أصحابه ، ووجه غرابته لا يخفى ; لأن فيه وفي أمثاله مما يكتفى بالعلم بالمرضي ، وأعجب منه أنه قال : بقي أنه بعد جعله صدقة لأصحابه يصح أن يأكله صلى الله عليه وسلم ; لأنه يصير هدية له من أصحابه ، كما روي أنه أكل من شاة صدقة أخذتها بريرة فقال : " صدقة عليها وهدية لنا " . إلا أن يقال : لم يأذنه أصحابه بالأكل لعدم [ ص: 81 ] حكمهم بالعلم ، انتهى . ووجه العجب أنه لم يفرق بين التمليك والإباحة ، فمسألة بريرة محمولة على إهدائها له صلى الله عليه وسلم بعد تملكها على وجه الصدقة بأخذها ، ومسألة الأصحاب هنا مبنية على إباحة الأكل لهم كما هو ظاهر ، فلا يصح لهم الإباحة لغيرهم ، وقد روى أحمد والطبراني أنه قال لأصحابه : كلوا ، وأمسك . ( قال ) : أي بريدة بن الحصيب . ( فرفعها ) : أي سلمان من عنده صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه أو فرفعها بعد فراغهم من أكلها ، وقال الحنفي : هذا بظاهره يدل على أن أصحابه صلى الله عليه وسلم أيضا لم يأكلوا منها أول مرة ، انتهى . ولم يظهر وجه لعدم أكل الأصحاب مع منافاته لظاهر رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : كلوا ، وأمسك يده . ( فجاء ) : أي سلمان . ( الغد ) : بالنصب أي حقيقة أو حكما أي يوما أو وقتا آخر بعد ذلك . ( بمثله ) : أي بنحو ما جاء به أولا ، وهذا أولى من قول ابن حجر أي برطب على مائدة ، ومن قول العصام : الضمير للمائدة لتأويلها بالخوان إذ لا يبقى فائدة للمثل وتغيير الخوان غير محقق ، ثم قال : ولك أن تجعل قوله بمثله حالا أي ملتبسا بمثل هذا المجيء ، يعني أن الباء على ما سبق للتعدية أو المصاحبة . ( فوضعه ) : أي سلمان مثله أو نحو ما سبق من وضعه . ( بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا يا سلمان ) : خاطبه باسمه ثانويا تلطفا على مقتضى رسمه وإشعارا بدخوله في السلم وهو الإسلام وتفاؤلا ، فإن الأسماء تنزل من السماء ، وفي وضع اسمه على صورة التثنية إيماء إلى تعدد قضيته واستسلامه مرة بعد أخرى . ( فقال : هدية لك ) : قال الحنفي : لعل اختيار كلمة " على " في الصدقة وكلمة " اللام " في الهدية للإشارة إلى الضر فيها وهو الذل ، وعدمه في الهدية وهو الإكرام ، انتهى . وهذه القاعدة إنما تكون في فعل واحد تارة يتعدى باللام وتارة [ ص: 82 ] بعلى كشهد له وشهد عليه ، وحكم له وحكم عليه ، ودعا له ودعا عليه ، لا أن اللام موضوعة في كل موضع للنفع وعلى للضر ، مع أن الصدقة على الأصحاب ليست للضرر ، وقد قال تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء ) نعم ، الاقتصار في الهدية على خطابه صلى الله عليه وسلم وتعميمه مع أصحابه في الصدقة للإشارة إلى أن القصد هو التقرب إليه من غير مشاركة لأحد فيه ، وأن غيره من الأصحاب مشارك له فيما هو الغرض من الصدقة تبعا له لو جازت له . ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ) : أي بطريق الانبساط . ( ابسطوا ) : دفعا لوهمهم أن هذه مختصة فليس لهم أن يأكلوا منها ، وإشارة إلى حسن الآداب مع الخدم والأصحاب إظهارا لما أعطاه من الخلق العظيم والكرم العميم ، وهو أمر من البسط بالموحدة والمهملتين من حد " نصر " على ما ضبط في أكثر النسخ ، ومعناه أوصلوا أيديكم إلى هذه المائدة وكلوا منها معنا ، فبسط اليد كناية عن إيصالها إلى الشيء ، ومنه : ( لئن بسطت إلي يدك ) فأيديكم محذوف يدل عليه السياق أو من البسط بمعنى النشر أي انشروا الطعام في المجلس بحيث يصل إليه يد كل واحد أو اقسموا هذه الهدية بينكم ، أو معناه انبسطوا من سلمان واستبشروا بقدومه تلطفا له وتطييبا لقلبه ، من قولهم : ليكن وجهك بسطا أي منبسطا ، ومنه حديث فاطمة : " يبسطني ما يبسطها " أي يسرني ما يسرها ; لأن الإنسان إذا سر انبسط وجهه ، وفي بعض النسخ " انشطوا " بالنون ثم الشين المعجمة المضمومة أو المفتوحة بعدها طاء مهملة ، فيكون من النشاط قريبا من الانبساط أي : كونوا ذا نشاط للأكل معي ، وبه صححه بعضهم بكسر الهمز والشين المعجمة من حد " ضرب " ، ويقال في معناه افتحوا العقدة ، ولعل مائدة سلمان كانت في لفافة معقودة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " ما هذه ؟ " ، ولا يشكل بما في النهاية ، يقال : نشطت العقدة إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها ; لما في التاج أنه من الأضداد وأنه من باب نصر ومصدره الأنشوطة ، وصححه بعضهم بفتح الهمزة وكسر الشين من الإنشاط وهو الحل ، وفي قليل من النسخ : انشقوا ، بالنون والشين المعجمة والقاف المشددة من الانشقاق بمعنى الانفراج والتفرق ، ويمكن أن يكون أمرهم بالانشقاق ليدنو سلمان ، ويقرب منه صلى الله عليه وسلم أو يجلس فيما بينهم . هذا وفي الحديث قبول الهدية ممن يدعي أنها ملكه اعتمادا على مجرد ظاهر الحال من غير بحث عن باطن الأمر من ذلك ، ولعل سلمان كان مأذونا في ذلك من مالكه ، وفيه أنه يستحب للمهدى له أن يعم الحاضرين مما أهدي إليه ، وحديث : " من أهدي له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها " وإن كان ضعيفا كما قاله ميرك مؤيد لهذا المعنى ، وقال الترمذي في الأصول : المراد بهم الذين يداومون مجلسه ويعتكفون بابه ويتفقدون أموره لا كل من كان جالسا في ذلك الوقت ، انتهى . وأما ما اشتهر على الألسنة أن الهدايا مشترك فليس للفظه أصل ، وإن كان هو في معنى الضعيف ، ووقع لبعض المشايخ أنه أتي بهدية عظيمة من دنانير ودراهم جسيمة ، وكان عنده فقير مسافر فقال : يا مولانا ، الهدايا مشترك ، فقال الشيخ بلسانه أماتنها خوشترك أي الانفراد أحسن ، فظن الفقير أنه يريد الانفراد [ ص: 83 ] لنفسه فتغير حاله ، فقال الشيخ : لك تنها خوشترك ، فشرع في أخذه ، فعجز عن حمله وحده ، فأشار الشيخ إلى بعض أصحابه بمعاونته . ومن اللطائف أن الإمام أبا يوسف أتي بهدية من النقود فقيل له : الهدايا مشترك ، فقال : اللام للعهد ; أي : الهدايا من الرطب والزبيب وأمثالها ، فانظر الفرق البين بين علماء الظاهر والباطن . ( ثم نظر إلى الخاتم ) : بالفتح ويكسر . ( على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : هذا دليل الترجمة ، وأتى بثم الدالة على التراخي لما في كتب السير أن سلمان لبث بعد ذلك ينتظر رؤية الآية الثالثة التي أخبره عنها آخر مشايخه ، أنه سيظهر حبيب عن قريب ومن علاماته القاطعة على أنه هو النبي الموعود الذي ختم به النبوة أنه لم يأكل الصدقة ويقبل الهدية ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فلما شاهد سلمان العلامتين المتقدمتين انتظر الآية الثالثة إلى أن مات واحد من نقباء الأنصار فشيع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازته ، وذهب معها إلى بقيع الغرقد ، وجلس مع أصحابه في ذلك المكان ينتظر دفنه ، فجاء سلمان واستدار خلفه لينظر إلى خاتم النبوة ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم استدباره عرف أنه يريد أن يستثبت شيئا وصف له ، فألقى الرداء عن ظهره فنظر سلمان إلى الخاتم . ( فآمن به ) : بلا تراخ ومهلة لما رأى من انطباق أوصافه المذكورة في التوراة عليه صلى الله عليه وسلم ، فالفاء متفرع على مجموع ما سبق من الآيات الثلاثة . ( وكان لليهود ) : مفرده اليهودي ; أي : كان سلمان موثوقا عندهم بحبال رقيتهم ، والجملة حال من فاعل آمن ، والظاهر أنه كان مشتركا بين جماعة منهم كما يدل عليه قوله الآتي : " على أن يغرس لهم " ، لكن أخرج ابن سعد من طريق ابن عباس ، عن سلمان أنه : قدم في ركب من بني كلب إلى وادي القرى ، فظلموني وباعوني عند ابن رجل من اليهود . وفي أخرى : فاشترتني امرأة بالمدينة . فيحتمل على أنهما كانا شريكين في اشترائه ، أو يحمل حديث الباب على الإسناد المجازي ، وجعل التابع في دائرة المتبوع والفرع في حكم الأصل ، أو على تقدير مضاف ; أي : لبعض اليهود ، ويحتمل أن رفقاءه من بني كلب باعوه في وادي القرى لرجل من اليهود ثم باعه ذلك الرجل . . . امرأة بالمدينة ، ثم اشتراه منها جماعة من اليهود ، فإنه قد صح عن سلمان أنه قال : تداولني بضعة عشر من رب إلى رب . ( فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : قيل : أي بشرط العتق ، وقيل : أمره بأن يشتري نفسه ; لما في جامع الأصول أنه كوتب فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابته ، وقيل : أدى بدل كتابته ، وسماه اشتراء مجازا ، وحاصل معنى الكل أنه خلصه عن رقه . ( بكذا وكذا درهما ) : قيل : أربعون أوقية من فضة ، وقيل : من ذهب ، والأوقية كانت إذ ذاك أربعين درهما . ( على أن يغرس ) : بفتح الياء وكسر الراء . ( لهم ) : أي لمن يملك سلمان . ( نخيلا ) : هو والنخل بمعنى واحد والواحدة النخلة ، ثم " على " بمعنى " مع " ، ويؤيده ما في رواية " وعلى " بالواو العاطفة ، وهذا يقتضي أن لا يكون شراؤه صلى الله عليه وسلم حقيقة ; إذ لا يصح جعل الغرس داخل الثمن ولا شرطا في عقد البيع ، سواء جعل ضمير " يغرس " راجعا إلى سلمان أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يلزم منه أن البائع [ ص: 84 ] قد استثنى بعضا من منفعة المبيع لنفسه مدة مجهولة ، وهي غرسه لتلك النخلة وعمله فيها وهو منهي عنه ، ويؤيده ما قررناه ما في مسند أحمد عن سلمان أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كاتب يا سلمان ، فكاتبت على ثلثمائة نخلة أحسنها ، وأربعين أوقية ذهبا ، وزاد في بعض الروايات : وبقي الذهب ، فجاءه صلى الله عليه وسلم مثل البيضة من الذهب من بعض المعادن ، فقال صلى الله عليه وسلم لسلمان : " أد هذه عنك " . ( فيعمل سلمان ) : بالنصب معطوف على " يغرس " فيفيد أن عمله من جملة بدل الكتابة ، قال العصام : وفي نسخة " ليعمل " ، والله أعلم بصحته . وقيل : بالرفع على أن عمله متبرع ، وهو يصحح أن شراءه صلى الله عليه وسلم حقيقة ، ثم في تصريح سلمان إيماء إلى أن فاعل " يغرس " هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما قول الحنفي : أي سلمان ، فوهم مخالف لما في الأصول فيه كذا في أكثر النسخ ، وفي بعض النسخ : فيعمل فيها سلمان . فالتذكير باعتبار النخل والتأنيث باعتبار النخلة ، كذا ذكره ميرك ، وتبعه الحنفي ، وقال ابن حجر : ذكره نظرا للفظ والأولى ما في القاموس : النخل معروف كالنخيل ويذكر وواحدته نخلة جمعها نخيل ، انتهى . وقد جاء في القرآن : ( نخل منقعر ) ، و ( نخل خاوية ) . ( حتى تطعم ) : بضم أوله وبكسر العين ، لا غير على ما في أصلنا ، وهو بالتذكير والتأنيث ، وقد سبق وجهها ، والمعنى : حتى تثمر ، يقال : أطعمت النخلة إذا أثمرت ، قال ميرك : واعلم أن روايتنا بالتاء الفوقانية والتحتانية لكن بصيغة المعروف لا غير ، وأما ما قاله بعض المحدثين من أنه روي بصيغة المجهول فليس هو في روايتنا وأصول مشايخنا ، والله الهادي ، انتهى . وأراد به ، والله أعلم ملا حنفي فإنه كان يدعي أنه أخذ الحديث عن والد ميرك ، وقد ذكر في شرحه أنه يروى معروفا ومجهولا بالمثناة من فوق ومن تحت ففيه أربعة أوجه : منصوب بتقدير " أن " بعد " حتى " . وفي النهاية في الحديث : نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم . يقال : أطعمت الشجرة إذا أثمرت ، وأطعمت الثمرة إذا أدركت أي صارت ذات طعم يؤكل منها . وروي حتى تطعم أي : تؤكل ، ولا تؤكل إلا إذا أدركت ، انتهى كلامه . ومنه يعلم وجه الرواية معروفا ومجهولا ، تم كلامه . ولا يخفى أن الرواية بالوجهين إذا ثبتت في كلمة في حديث لا يلزم منه ثبوتهما في حديث آخر ، خصوصا مع اختلاف الفاعل فإنه الثمرة في الحديث الذي ذكره صاحب النهاية وهو يحتمل المعنيين كما ذكرهما على ما لا يخفى ، والنخلة في هذا الباب هي الفاعل ، فمعنى إثمارها ظاهر ، وأما قولك : حتى تؤكل النخلة ، فما أبعدها عن التحقيق والتدقيق ، وفي القاموس : أطعم النخل إذا أدرك ثمرها ، فهو إذا أسند إلى غير أي مأكول كالثمرة جاز كونه معلوما ومجهولا كما علم من صنيع صاحب النهاية فلا يصح قياس غيره عليه لما بينهما من الفرق ، وبه اندفع قول ابن حجر أيضا ، وروي بالبناء للمفعول أي : يؤكل ثمرها ; لأن الأصل عدم التقدير ، ولا يعدل إليه إلا بعد صحة الرواية ، فتدبر واعلم أن في كتب السير : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعانوا سلمان بأمره صلى الله عليه وسلم إياهم بإعانته ، فجمعوا الفسلان على مقدار مقدرتهم حتى اجتمع له ثلثمائة فسيل ، ثم حفر سلمان لها في [ ص: 85 ] أرض عينها أصحابه ، ولما جاء وقت الغرس أخبر به صلى الله عليه وسلم فجاء . ( فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي بيديه الكريمتين . ( النخل ) : أي جميعها . ( إلا نخلة ) : بالنصب على الاستثناء . ( واحدة ) : للتأكيد . ( غرسها عمر رضي الله عنه فحملت ) : أي أطعمت . ( النخل ) : أي جميعها . ( من عامها ) : أي من سنة غرسها ، وفي نسخة : في عامها ، وهو الأظهر ، وإضافة العام إليها باعتبار أنها مغروسة فيه ، والضمير إلى النخيل ، وقال العصام : أي من عام الغرس ، وفي بعض النسخ : في عامه ، والضمير للغرس ، انتهى . وهو خلاف الظاهر المتبادر ، وفي هذا معجزة لأن المعتاد أن النخل لا تحمل من عام غرسها . ( ولم تحمل نخلة ) : بفتح المثناة فقط في أصلنا المصحح بالأصول المعتمدة ، وقال الحنفي : روي بالمثناة من فوق ومن تحت ووجه كلتيهما ظاهر . ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن هذه ) : أي ما سبب هذه النخلة الواحدة في أنها ما حملت كبقية النخلة . ( فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله أنا غرستها ) : وعدم حمل هذه النخلة في عام غرسها وقع على سنن ما هو المتعارف ، وكان عمر رضي الله عنه ما عرف أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالغرس إظهار المعجزة بل مجرد المعاونة . ( فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرسها فحملت من عامه ) : أي عام الغرس ، وفي بعض النسخ : " من عامها " وهو ظاهر ، وكان الحكمة في ذلك أن يظهر المعجزة بإطعام الكل سوى ما لم يغرسه كل الظهور ، ويتسبب لظهور معجزة أخرى وهي غرس نخلة عمر ثانيا وإطعامها في عامها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية