الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              من أسباب التطرف الديني..

              للتدين المنحرف أسباب نفسية، وأخرى علمية، تظهر في أقوال المرء وأفعاله، وتلحظ فيما يصدره من أحكام على الأشخاص والأشياء!

              وتتفاوت هـذه الأسباب قوة وضعفا، وقلة وكثرة، ولكنها على أية حال ذات أثر عميق في تحديد المواقف والاتجاهات..!

              والمفروض في العبادات التي شرعها الله للناس أن تزكي السرائر، وتقيها العلل الباطنة والظاهرة، وتعصم السلوك الإنساني عن العوج والإسفاف، والجور والاعتساف.

              وكان هـذا يتم حتما لو أن العابدين تجاوزوا صور الطاعات إلى حقائقها! وسجدت ضمائرهم وبصائرهم لله عندما تسجد جوارحهم، وتحرك أنفس ما في كيانهم - وهو القلب واللب - عندما تتحرك ألسنتهم..

              أما إذا وقفت العبادات عند القشور الظاهرة، والسطوح المزورة، فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفى سقاما.

              وقد كتبت يوما عن (( الحطيئة عندما يشتغل بالدعوة)) وتساءلت:

              ماذا تنتظر من رجل طبيعته شرسة إلا الوعظ بقوارص الكلم وسيء العبارات؟ [ ص: 114 ]

              إن طبائع بعض الناس تحول الدين عن وجهته إلى وجهتها هـي، فبدل أن تهدي تصد! وبدل أن تسدي تسلب!

              وقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة نفر من الأحبار والرهبان، جعلوا الدين كهانة تفسد بها الفطرة، وتصطاد بها المنفعة.

              ( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) (التوبة: 34).

              وهذا النوع من الناس آفة الأديان كلها، وفيه يقول الشاعر:


              وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها..     فباعوا النفوس ولم يربحوا
              ولم تغل في البيع أثمانها!!



              والآفات النفسية تبدأ من الطفولة، بل قد تنحدر مع خصائص الوراثة، وإذا لم تذهب بها التربية الراشدة، نمت مع المرء شابا، وبقيت في دمه شيخا!!

              وانظر إلى رجل كأبي سفيان، لقد كان قائد مكة وشيخها المقدم في الجاهلية، ولم يفت الرجال الذين يعرفونه أنه يحب الفخر، وأن كلمة تنوه شأنه، قد تؤثر في حكمه..

              واقترح العباس رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شيئا يطمئنه على مكانته بعد غلبة التوحيد على أم القرى ! واستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرأي عمه، فقال:

              ( نعم، من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن قعد في بيته فهو آمن ) واستراح أبو سفيان أن ذكر اسمه، ومهد لتسليم مكة دون حرب!!

              وقد تتستر العلة النفسية وراء الحماسة للقيم والغيرة على الحق، وأوضح [ ص: 115 ] مثل لذلك الرجل الذي علق على تقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم للغنائم، فقال: هـذه قسمة ما أريد بها وجه الله..

              إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يتألف بعض الناس بشيء من حطام الدنيا، لأن اليقين لم يستمكن من قلوبهم، وكان على الرجل الذي لم تعجبه القسمة أن يتساءل عن سرها.. أما أن يسارع إلى اتهام أشرف الخلق فهذا مرض باطن!

              وقد نبه النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هـذا الصنف يطيل الصلاة والقراءة، ولكن عبادته لا تزكي سريرته، ولا تشفى علته..!!

              وفي غزوة العسرة تساءل النبي صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك ، ما أخره؟ فتطوع رجل باتهامه قائلا: ألهاه النظر في برديه! وهي كلمة محقورة تنبئ عن الحقد! فكعب أحد الثلاثة الذين خلفوا، وقد عفا الله عنهم، وتاب عليهم.

              وفي أثناء أزمة كعب جاءته رسالة من ملك الروم تستحثه على ترك المدينة، واللحاق معززا بحاشية الملك، فعد ذلك محنة، وأحرق الرسالة! وارتقب الفضل الأعلى حتى جاءه - وهو له أهل - بيد أن بعض الناس ينظر إلى غيره بعين المقت التي تبدي المساوئ وتخفي المحامد، وينتهز أول فرصة ليشبع ضغنه..

              وجاء وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم رجل ثرثارة دعي متشدق! كلما قال رسول الله كلاما، طوعت له نفسه أن يقول كلاما أفصح يحاول أن يسامي به رسول الله صلى الله عليه وسلم..!!

              وكان التعليق الذي باء به أن هـذا ومثله يلوون ألسنتهم بالكلام كما تلوي البقر ألسنتها بالحشائش، لهم النار يوم القيامة..!!

              وكم رأينا من سباق للكلام في الدين لا حصيلة له إلا اللغو والهباء، فالوعظ [ ص: 116 ] لا يبلغ هـدفه مهما كان بليغا إذا قارنته نية مغشوشة..

              سمع الحسن البصري ناصحا قوي البيان، لكنه لم يتأثر به، فقال له: يا هـذا، إن بقلبي شيئا أو بقلبك..!

              والآفات النفسية تشيع بين ناس كثيرين، فيهم المتدين وغير المتدين، وعلماء التربية يرون هـذه العلل أخطر الرذائل المادية.

              ومن المقرر أن معاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح! فالكبر شر من السكر، وإن كان الشارع أعد عقوبة عاجلة للسكارى، إلا أنه أرجأ المستكبرين ليوم تطؤهم فيه الأقدام..

              والسر في ذلك أن السكران يتناول ما يضره وحده غالبا، فهو بالخمر يفري كبده ويحقر عقله، أما المتكبر فهو يجتاح حقوقا، ويظلم مستضعفين، ولا تقف دائرة عدوانه عند حد..

              ولا تحسبن الكبر صعر الخد وتثاقل الخطو! فهذه مظاهره الطفولية! الكبر بطر الحق وغمط الناس، وانتهاج مسلك يفرض شهوة فرد على جماهير غفيرة.

              وتدبر سياسة هـؤلاء المرضى العتاة، وهم يقلبون الحق باطلا والباطل حقا.

              يقول موسى لفرعون: ( قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ) (الأعراف: 105).

              ويكون جواب الطاغية وملؤه: ( إن هـذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم ) (الأعراف: 109 - 110).

              رجل يريد الفرار بقومه من العذاب فيتهم بأنه يريد إخراج المواطنين من أرضهم.. [ ص: 117 ]

              فإذا عرف نفر من الأتباع الحق وآمنوا به، قيل لهم: ( آمنتم به قبل أن آذن لكم ) (الأعراف: 123).

              سبحان الله! لماذا ينتظر إذنك؟

              قديما وحديثا وجد أولئك المنحرفون من حملة الأسماء الطنانة، فكانوا بلاء على أممهم، ودفعت الشعوب آلافا مؤلفة من القتلى، ثمنا للمجد الشخصي الذي يزعمه رجل يقول: أنا الدولة..! أو أنا وحدي..!

              والاستبداد السياسي هـو البيئة الخصبة لإنبات هـؤلاء الفراعين، ويؤسفنا القول: إنه في الشرق أكثر منه في الغرب، وهو السد الأعظم أمام ارتقاء أمم شتى والسر في انتشار رذائل الملق والصغار في جنباتها..

              وعندما أبحث عن جراثيم الانحراف بين المتدينين أجد هـذه اللون من الفرعنة وراء جملة من المسالك التي نشجبها، ونضيق بأهلها، فبعض الجماعات نبتت أفكارها في السجون، ونمت أشواكها وراء القضبان، يوم استطاع رجل فرد أن يأمر باعتقال ثمانية عشر ألفا في عشية واحدة، وأن يدخل الكآبة والذل على ثمانية عشر ألف بيت من المسلمين!!

              هل أدافع بهذا القول عن التطرف؟ لا، فأي عالم مسلم يأبى العوج الفكري، والانحرافات النفسية!

              إن هـذا الشباب مختل المزاج، فصاحب الرسالة ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهؤلاء الشبان ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما.

              والإسلام يقدم الدليل، ويؤخر العنف، فما يلجأ إليه إلا كارها، أما أولئك الشبان فقد نظروا إلى الأسلوب الذي عوملوا به، واستبيحت به دماؤهم وأعراضهم فلم يروا أمامهم إلا السلاح!!

              ويوجد بين المتدينين قوم أصحاب فقر مدقع في ثقافتهم الإسلامية، وإذا كان لهم زاد علمي فمن أوراق شاحبة بعيدة عن الفكر الإسلامي الصحيح [ ص: 118 ] والأقوال الراجحة لفقهائه!

              وهم يؤثرون الحديث الضعيف على الصحيح، أويفهمون الخبر الصحيح على غير وجهه، وإذا كانت المدارس الفكرية في تراثنا كثيرة، فهم مع ظاهر النص ضد مدرسة الرأي، وهم مع الشواذ ضد الأئمة الأربعة، وهم من الجمود ضد التطور، وقد سمعت بعضهم يحارب كروية الأرض ودورانها، فلم تهدأ حربه حتى روي له أن ابن القيم يقول باستدارة الأرض! وما زال البحث جاريا عن رواية أخرى تقول:

              إن الأرض تدور!! كي يسكت ويستكين..!!

              هل بين أولئك القوم وبين الخوارج القدامي قرابة روحية وفكرية؟ ربما، بيد أن اتهام الخوارج بالافتئات على الأمة يمكن أن يستمع من خليفة راشد أعني من حاكم وليد شورى صحيحة، له مكانته الخلقية النزيهة..!!

              أما أن يتوجه بالتهمة حاكم مستبد متسلط على رقاب العباد مثلا فإن الرد معروف، سيقال له: وما مكانتك أنت من الأمة ومصالحها وقيمها؟

              إن الجو الحر هـو المكان الوحيد الذي يموت فيه التطرف، ويتوارى أهله على بطء، أو على عجل، المهم أنهم لا يبقون ولا يستقرون!

              على أن الفساد السياسي لا يسيغ الانحراف العقائدي، ولا العوج الفقهي، وليس الدين ستارة لتغطية العيوب، وإنما هـو طهارة منها، وحصانة ضدها، وفي تجاربي ما يجعلني أشمئز من التدين المغشوش، وأصيح دائما أحذر عقباه..

              إن المنحرفين يسترون - بركعات ينقرونها - فتوقا هـائلة في بنائهم الخلقي وصلاحيتهم النفسية، وهم لا يظنون بالناس إلا الشر، ويتربصون بهم العقاب لا المتاب، وهم يسمعون أن شعب الإيمان سبعون شعبة، بيد أنهم لا يعرفون [ ص: 119 ] فيها رأسا من ذنب، ولا فريضة من نافلة، والتطبيق الذي يعرفون هـو وحده الذي يقرون.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية