الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              حقيقة العبادة..

              وعندما ننظر إلى العبادات السماوية نجد أداءها في اليوم والليلة لا يستغرق نصف ساعة، ونجد تعاليمها تستغرق صفحة أو صفحتين، ويبقى الزمان بعد ذلك واسعا، والمجال رحبا لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها كلا وجزءا لخدمة الدين.

              وكل جهد يبذل في ذلك يسمى شرعا: عملا صالحا، وجهادا مبرورا، وضميمة إلى الإيمان تؤهل المرء لرضوان الله..

              ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ) (الأنبياء: 94).

              ومن المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا عجزة في الحياة، والصالحات المطلوبة تصنعها فأس الفلاح، وإبرة [ ص: 24 ] الخياط، وقلم الكاتب، ومشرط الطبيب، وقارورة الصيدلي، ويصنعها الغواص في بحره، والطيار في جوه، والباحث في معمله، والمحاسب في دفتره، يصنعها المسلم صاحب الرسالة وهو يباشر كل شيء، ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته!!

              وإنه لفشل دفعنا ثمنه باهظا عندما خبنا في ميادين الحياة، وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تقال ومظاهر تقام..

              تخيل رجلا وصل إلى الحكم وقال لأتباعه:

              أمامكم أجهزة الدولة أديروها لإثبات وجودكم وتحقيق هـدفكم... فإذا هـم يتركون الأجهزة عاطلة، ويجتمعون بين الحين والحين أمام قصره للهتاف باسمه! إنه لو طردهم من ساحته ما بغى عليهم، ولو أمر الحراس بضربهم ما ظلمهم، إنهم مخربون لا مخلصون!

              ومن قديم رأى نفر من العابدين أن يحصروا عبادتهم في الصلوات والأذكار، يبدئون ويعيدون ويظنون أن الأمم تقام بالهمهمة والبطالة، فمن ينصر الله ورسله؟ إذا كان أولئك جهالا بالحديد وأفرانه ومصانعه؟ والله يقول في كتابه:

              ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) (الحديد: 25).

              إن هـناك سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط واستخراجه والانتفاع بمشتقاته، لا نعرف منها شيئا، فهل تخدم عقيدة التوحيد وما ينبني عليها بهذا العجز المهين...؟

              إنه لو قيل لكل شيء في البلاد الإسلامية: عد من حيث جئت، لخشيت أن يمشي الناس حفاة عراة، لا يجدون - من صنع أيديهم - ما يكتسون، [ ص: 25 ] ولا ما ينتعلون ولا ما يركبون، ولا ما يضيء لهم البيوت.. بل لخشيت أن يجوعوا لأن بلادهم لا تستطيع الاكتفاء الذاتي من الحبوب!!

              إن الله لا يقبل تدينا يشينه هـذا الشلل المستغرب، ولا أدري كيف نزعم الإيمان والجهاد ونحن نعاني من هـذه الطفولة التي تجعل غيرنا يطعمنا ويداوينا؟ ويمدنا بالسلاح إذا شاء..

              إنها طفولة تستدعي الكافل المهيمن، والحديث عن إنجاح رسالة ما - ونحن في طوقها - حديث يثير الهزء، فما للأطفال وتكاليف الأبطال؟!

              ولقد راقبت الكثير من الشبان الذين يستحبون خدمة دينهم، وأفزعني أن الخطل الموروث يهيمن عليهم، إنهم لا يحسبون عرق الجبين في البحث عن البترول، أو تلوث الجبهة وراء آلة دوارة لا يحسبون ذلك جهادا، إن الجهاد في وهمهم تلاوات وأوراد، وتكرار ما تيسر من ذلك ما دام في الوقت متسع...

              وقد رأيت صيدليا مشغولا ببحث قضية ((صلاة تحية المسجد)) في أثناء خطبة الجمعة، ومهتما بترجيح مذهب على مذهب، فقلت له: لماذا لا تنصر الإسلام في ميدانك، وتدع هـذا الموضوع لأهله؟

              إن الإسلام في ميدان الدواء مهزوم، ولو أراد أعداء الإسلام أن يسمموا أمته في هـذا الميدان لفعلوا، ولعجزتم عن مقاومتهم!

              أفما كان الأولى بك وبإخوانك أن تضعوا شيئا لدينكم في ميدان خلا منه، بدل الدخول في موازنة بين الشافعي ومالك ؟

              وسألني طالب بأحد أقسام الكيمياء عن موضوع شائك في علم الكلام فقلت في نفسي: إن جائزة ((نوبل)) لهذا العام قسمت بين نفر من علماء الكيمياء ليس فيهم عربي واحد، وحاجة المسلمين إلى الاستبحار في علوم الكيمياء ماسة، وقد أوردت في بعض كتبي كيف أباد الروس قرية أفغانية [ ص: 26 ] عندما شنوا عليها حربا كيماوية، وذهب الضحايا في صمت، وتسامع جمهور المسلمين بالنبأ وهو لا يدري شيئا عما كان أو يكون...

              قلت للطالب السائل:

              إن ما تسأل عنه درسناه قديما، وحكايته كيت وكيت، وخير لك أن تنصرف عن هـذا الأمر وأن تقبل بقوة على ما تخصصت فيه، إننا فقراء إلى النابغين في المادة التي تتعلمها، وأغنياء عن المشتغلين بالفلسفات الكلامية..

              واستتليت ضاحكا:

              كانت الكيمياء قديما تهتم بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وتحدث الشعراء عن كيمياء الحظوظ التي ترفع السفلة إلى مناصب العلا!

              وسألني الطالب وهو يضحك أيضا عن كيمياء الحظوظ هـذه؟ فذكرت له بيتي ابن الرومي:


              إن للحظ كيمياء إذا ما مس كلبا أحاله إنسانا     يرفع الله ما يشاء متى شاء
              كما شاء كائنا ما كانا...!!



              والحظوظ قد تلعب دورا في الحياة، ولكنه ثانوي محدود، أما ارتفاع الأمم وانخفاضها فيرجع إلى قوانين صارمة وأقدار جادة، والمسلمين لم يظلموا عندما هـزموا في سباق الحياة! إنهم شوهوا معنى التدين فانهزموا بجدارة...

              وعدت أقول للطالب:

              تعمق في علوم الكيمياء فهذا أجدى على الإسلام من انكبابك على بعض قراءات دينية تخصصية ليست مطلوبة منك، وحسبك من فقه الدين ما ينطبع في فؤادك وأنت تقرأ القرآن الكريم، ثم سر وراء نبيك البطل صلى الله عليه وسلم وتعلم منه كيف غير الدنيا باسم الله..

              وانصرفت عن الطالب الحائر وما أدري هـل اقتنع أم لا؟! [ ص: 27 ]

              إنه مع كثير من الشباب يظنون التقوى: بذل وقت أكبر في القراءات الدينية، والأخذ بقدر يسير من شئون الدنيا وعلوم الحياة، ولعمري إن الإسلام لا يكسب خيرا من هـذا المسلك، ولا تنتصر عقائده إذا كان أهله في بلاهة الهنود الحمر، وكان أعداؤه يملكون ((مكوك)) الفضاء!!

              املك ناصية الحياة بعلم واقتدار تقدر على نصرة الحق الذي تعتنق، أما قبل ذلك فهيهات ولسوف يسبقك الدهاة والشطار....!!

              التالي السابق


              الخدمات العلمية