الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              في مجال الأدب..

              وفي الوقت الذي كان الاستعمار الثقافي يئد الفصحى في مجال العلم، كانت جهوده موصولة لقتلها في مجال الأدب، ولكي نكشف أسلوبه في الفتك نحب أن نرجع قليلا إلى الوراء..

              منذ خمسين سنة، انتعشت العربية بنهضة أدبية في شعرها ونثرها، أشبهت أو أربت على تألقها القديم في العصر العباسي الأول! ولم يحدث في تاريخنا الأدبي أن تعاصر فيه مجموعة من العمالة، كما حدث ذلك خلال القرن الماضي..

              ففي ميدان النثر ظهر الرافعي ، والعقاد ، وأحمد أمين ، وزكي مبارك ، وطه حسين ، وأحمد حسن الزيات ، وعلي الطنطاوي ، وشكيب أرسلان ، وآخرون تغيب أسماؤهم عني الآن.

              وكان الانتماء الروحي لهؤلاء متباينا، فمنهم الوفي للإسلام ظاهرا وباطنا، منذ بدأ إلى أن مات!

              ومنهم من استقى من ينابيع أجنبية تأثر بها في كتابته حينا من الدهر، كالعقاد الذي تأثر بأدب السكسون، وطه حسين الذي تأثر بأدب اللاتي، ووقع بينهما تلاوم وجدال على هـذا الانتماء وقيمته الإنسانية والثقافية، ومنهم من غلبه فكر المستشرقين، واتجه إلى التحلل..

              على أن هـؤلاء جميعا كانت الفصحى لغتهم، وكان حسهم البياني رفيعا، وكانوا يحتقرون العامية ويترفعون عنها، ومع أن بدايتهم كانت على هـذا الخلط الذي وصفنا، فإن أغلبهم ختم حياته بخير..

              فلم يمت العقاد إلا بعد أن ألف أروع كتبه وأخلدها في الإسلام وحقائقه [ ص: 97 ] ورجاله..

              وعلى نحو ما كان طه حسين ، الذي بدأ ملحدا مارقا ثم أخذ ينعطف نحو الإسلام، وقد اعتمر وزار المسجد النبوي، وقال لي الصديق الأستاذ محمد فتحي، إنه كان معه على حافة القبر الطهور، قال: وكنت أمسك ذراعه وكان بدنه ينتفض بقوة...!!

              ويبدو أن الاستعمار الثقافي حاول تجفيف الروح الدينية في ميادين الأدب، ولكنه لم ينجح كل النجاح، وبقيت الفصحى رفيعة الهام.

              وفي ميدان الأدب الديني وجد فقهاء ودعاة ومفكرون ومفسرون لهم تدفق وبلاغة وذكاء مثل: محمد رشيد رضا - تلميذ الإمام محمد عبده - ومحمد فريد وجدي ، وجمال الدين القاسمي ، ومحمود شلتوت ، ومحمد البهي ، والفقيه الكبير محمد أبو زهرة ، والفقيه المؤرخ محمد الخضري ، ومجدد الإسلام في القرن الرابع عشر حسن البنا ، وآخرون أذهل عنهم الآن.

              كانت اللغة العربية على ألسنة هـؤلاء إذا خطبوا، وعلى أسنة أقلامهم إذا كتبوا، تتفجر ينابيع صافية.

              ولو قدر لهذه الفئة أن يطول بقاؤها لارتفعت بمستوى الجماهير، وأعادتهم إلى حظيرة اللغة التي هـبطوا دونها..

              وفي ميدان الشعر وجد أحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وخليل مطران ، والزهاوي ، والرصافي ، وأحمد محرم ، وعلي الجارم ، وغيرهم... وهؤلاء ما يقلون عن المتنبي ، والمعري ، وأبي تمام ، وبشار بن برد ، بل إن هـناك من النقاد ومؤرخي الأدب العربي من يرون أحمد شوقي أمير الشعراء العرب قديما وحديثا..

              وهؤلاء الشعراء - أعني المسلمين منهم - كانوا عواطف الإسلام الحارة [ ص: 98 ] ومشاعره النابضة، وكان شوقي الباكي الحزين في مآتم الإسلام وهزائمه، كما كان المغني الفرح في انتصاراته وانتفاضاته، وكان الشعر يقود معارك الحرية ضد الاحتلال الأجنبي ويوقد نيران الحماس في الجماهير التي تنطلق بين الحين والحين لتدافع عن وجودها المادي والأدبي..

              وظاهر أن هـذه النهضة الأدبية كانت تبني على المهاد الأول، وتصل من أمجاد المسلمين ما أضاعه التفريط والغدر!

              وظاهر أن محافظتها على التراث، وتقديسها للقيم الدينية، وولاءها العميق للغة العربية، أن ذلك كله ثابت لا يتزحزح.. ولكن الاستعمار الثقافي لم ييأس، وعداوته للغة القرآن لم تفتر!

              إنه يريد القضاء على الإسلام، وأيسر السبل إلى ذلك القضاء على العربية وقواعدها وآدابها..

              وأظنه اليوم قد بلغ بعض ما يشتهي! فقد اختفى الأدب العربي الأصيل، وإذا وجدت كتابات بالحروف العربية فإنها وعاء لمعان مبتوتة الصلة بأصولنا الروحية والفكرية..

              وإذا كان الأدب مرآة أمة، ودقات قلبها، فإن المتفرس في أدب هـذه الأيام العجاف لا يرى فيه بتة ملامح الإسلام ولا العروبة ولا أشواق أمة تكافح عن رسالتها، وسياستها القومية، وثقافتها الذاتية..

              ما الذي يراه في صحائف هـذا الأدب؟ لا شيء إلا انعدام الأصل وانعدام الهدف، والتسول من شتى الموائد الأجنبية... وحيرة اللقيط الذي لا أبوة له.

              والشعر؟ لا موضوع له! أذكر أن المرحوم أحمد زكي أبو شادي كان يهوى قول الشعر، وأصدر من نصف قرن مجلة باسم ((أبوللو)) تجمع إنتاج أمثاله من [ ص: 99 ] الهواة، وكان أبو شادي ((نحالا)) يزكي نحل العسل، فقال أحد الظرفاء: إن أبا شادي مغرم بكل ما يلسع: بتربية النحل وقرض الشعر!!

              وأشهد أن شعر أبو شادي كان أنظف ألف مرة مما يسمى في عصرنا هـذا بالشعر المرسل .. فقد كان لكلامه نظم موسيقي ومحور يدور عليه..

              أما الأشخاص الذين يحلو لهم حمل لقب ((شاعر)) دون أي نصاب من القدرة على النظم الموزون، والمعنى الرائق فأمرهم يستثير الدهشة والغضب..!

              وأريد أن أصفهم بصدق ليعرف الناس: ما هـم؟

              إذا لمحت عيني ما يسمى بالشعر المنثور تجاوزته على عجل، لأني من طول ما بلوته يئست أن أجد فيه معنى جادا، أو شعورا صادقا أو فكرة واضحة!

              غير أني أحيانا أقرأ ما يترجم من الشعر الأجنبي لأتعرف على ألوان الحس التي تخامر شتى الأجناس، ولأصل الرحم الإنسانية بيننا وبين الآخرين...

              وشاء الله أن أقرأ خلال فترة قصيرة كلمات، ولا أقول أبياتا لشاعرين، أحدهما: أميركي، والآخر: أسباني، تريثت وأنا أطالعها إذ استبانت لي من خلال السطور حقائق بالغة الوضوح جديرة بالاحترام.

              أما الشاعر الإسباني فيذكر في شعره المرسل - هـكذا ترجم لنا - أن في أصله عرقا عربيا، ومن ثم فهو يتغنى بالحضارة التي أينعت في الأندلس ثمانية قرون، ويومئ إلى شعاعاتها التي أضاءت أوربا خلال العصور الوسطى، ويذكر في ألفاظ خاطفة كيف امحت هـذه الحضارة، أو كيف انتحر أصحابها! وهاكم كلمات الشاعر الإسباني (عن الحضارة العربية في إسبانيا، للدكتور محمود علي مكي ).


              أنا مثل أولئك القوم الذين عمروا أرض أجدادي [ ص: 100 ]     أنا من جنس كان
              قديما صديقا للشمس!!     أنا من أولئك الذين كسبوا كل شي
              وفقدوا كل شيء..     وروحي هـي روح الزنابق
              العربية الإسبانية..



              إن هـذه الكلمات أهاجت في نفسي عاصفة ترابية، كرياح الخريف التي تهب بغتة، فتثير الغبار، وتحمل الأوراق الجافة، وتحرك معاني البلى..

              نعم كانت لنا على هـذه الأرض حضارة أقمناها يوم كنا حملة وحي، وصلة بين الأرض والسماء، فلما خنا كتابنا، وأرخصنا رسالتنا طاردتنا نقمة رهيبة، وفقد كل شيء، أو كما أبو تمام :


              ثم انقضت تلك السنون وأهلها     فكأنها، وكأنهم أحلام..!!



              والأعجب من هـذا التاريخ، أن أصحابه لا يذكرونه، ولا يستخلصون منه عبرة!! ما لي أذهب بعيدا عن موضوعي؟ إنني أريد الكلام فيما يسمى بالشعر المنثور ، وقد نقلت نموذجا منه للشاعر الإسباني (( مانويل ماتشادو )) فلأذكر النموذج الآخر الذي أعجبني للشاعر الأميركي (( جون هـانيز )) من مقال للأستاذ درويش مصطفى الفار ..)).

              كلما نظرت إلى اللبن مسكوبا على المائدة

              ورأيت الأكواب ملقاة بغير عناية

              تذكرت كل الأبقار التي تشقى..

              وضياع ((الأطنان)) من الحشائش في المراعي

              ومعاناة الضروع التي تمتلئ لتحلب

              وأشجار الغابات التي تجتث لصناعة الورق [ ص: 101 ]

              و ((ملايين)) الشموع التي تحترق هـباء

              فعلى كل مائدة في العالم المتخم تنسكب الألبان ضائعة

              ويحاول ((ملايين)) الأطفال الغرثى التقاطها بقطع الاسفنج دون جدوى..!!

              هل هـذه نظرة مادية؟ هـل الشاعر الأميركي يتألم للدولارات الضائعة؟

              من الظلم أن نوجه إليه هـذه التهمة، إن الرجل يمقت الإسراف، وإراقة نعم الله على الثرى.

              تصور اللقمة التي ترمي بها دون اكتراث، كم سنبلة قمح بها؟ كم بذل الفلاح من جهد حتى حصدها؟ وكم بذل غيره من جهد حتى أوصلها إلى يدك؟

              أما كان الأولى أن تصان لينتفع بها فقير بدل أن تستقر في صناديق القمامة؟

              لكن التبذير يزين لأصحابه ازدراء كل شيء، والاستهانة بمواقعه، ولأمر ما يقول الله تعالى:

              ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) (الإسراء: 27).

              والجنس العربي أجدر الناس بمعرفة مقابح التبذير، فإن العرب الأغنياء متخصصون في بعثرة مال الله هـنا وهناك دونما اكتراث..!

              والشاعر الأميركي يقرر في كلماته حقائق لا ريب فيها، ولست أدري هـل هـي في الأصل الانكليزي مضبوطة الأداء وفق موسيقى خاصة، أم أن الشعر عند القوم مرسل؟؟

              إن الشعر العربي له موسيقاه الخاصة، وقد أحصى الرواة له ستة عشر نغما [ ص: 102 ] تتعانق مع العواطف، وتنساب معها الأحاسيس الإنسانية انسيابا ساحرا جميلا..

              والفرق بين الكلام العادي والقصائد المنظومة، كالفرق بين الأصوات المعتادة، وبين ألحان الناي وصدح الآلات الموسيقية المختلفة، وقد نبغ شعراء كثيرون في تاريخنا الأدبي ولا يزال تراثهم موضع درس واحترام، وترديد لما حوى من عوطف وتجارب..

              وقد غالى أبو تمام في وصف الشعر وأثره عندما قال:


              ولولا خلال سنها الشعر ما درى     بغاة العلا من أين تؤتى المكارم!



              وبيت أبي تمام أفضل من بيت العقاد الذي يقول:


              والشعر من نفس الرحمن مقتبس     والشاعر الفذ بين الناس رحمان!



              هذا الكلام من هـفوات العقاد - رحمه الله - المردودة عليه.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية