الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              النص القرآني.. ورواية الآحاد..

              ويعجبني قول الشيخ محمد رشيد رضا :

              التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورة، فإن من جحد ما جاء في القرآن يحكم بكفره، ومن يجحد غيره ينظر في عذره! فما من إمام مجتهد إلا وقد قال أقوالا مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة لأسباب يعذر بها، وتبعه الناس على ذلك، ولا يعد ذلك أحد خروجا من الدين، حتى من لا عذر له في التقليد، فما بالك في مخالفة بعضهم بعضا في الأقوال الاجتهادية التي تختلف فيها أقيستهم؟)

              وقد تسأل: ما العذر في ترك حديث صح؟ والجواب: نص آخر أقوى منه مثلا! فالمالكية لم يحكموا إلا بتحريم ما ورد في الآية:

              ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) (البقرة: 173).

              وما عدا ذلك فهو مباح، وقد يكره فقط رعاية لبعض المرويات الواردة في كتب السنة.

              والأحناف أوجبوا الزكاة في كل ما خرج من الأرض إمضاء لقوله تعالى:

              ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) (البقرة: 267). [ ص: 141 ]

              ورفضوا قصر الزكاة على محاصيل معينة مما ورد في السنن..

              والشافعية ردوا من السنن ما يفيد أن لمس المرأة مثلا لا ينقض الوضوء!

              والحنابلة ردوا ما ورد من أن رضاع الكبار يحرم، وأمضوا فقط الرضاع الذي ينبت اللحم ويشد العظم..

              وهذه نماذج سريعة في ذلك العرض المحدود.. إن المرويات كثيرة، والأفهام أكثر، ووجهات النظر الفقهية لا تبدأ من فراغ، ولننظر مثلا في هـذه القضية.. عقد بيع تضمن شرطا! إن فقهاء قالوا بفساد البيع والشرط، وآخرون قالوا بصحتهما معا، ومن الفقهاء من قال بصحة البيع وفساد الشرط، وثمت أقوال أخرى، قال ابن رشد في ((بداية المجتهد)):

              والأصل في اختلاف الناس في هـذا الباب ثلاثة أحاديث، أحدهما: حديث جابر ( ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا، وشرط ظهره إلى المدينة ) ! والحديث الثاني: حديث بريرة، قال:

              ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط ) وهو متفق عليه:

              والثالث: حديث جابر:

              ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة هـي بيع الطعام في سنبله كما قال أبو عبيد، أو بيع الزرع - وهو مجهول القدر - بثمن محدد نقدا كان أو سلعا. والمزابنة حرب زبون فيها تدافع شديد، والمراد هـنا: بيع العنب بالزبيب مثلا أو الرطب بالتمر - وهذا مظنة الربا، ولذا حرمه الشارع مع رغبة المتبايعين في إمضائه. والمخابرة إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كجعل إيجار الفدان ثلاثة قناطير قطن. والمعاومة المعاومة من العام كالمشاهرة من الشهر، وأساس المنع الجهالة. والثنيا الثنيا كالثريا أو كالعليا بمعنى الاستثناء أن يبيع شيئا ويستثنى بعضه. وهو موضع الشاهد هـنا. ورخص في العرايا العرايا جمع عرية، يقصد البلح وهو في النخل لما ينضج وللفقهاء فيه كلام طويل. ) وهو في الصحيح. [ ص: 142 ]

              ومن هـذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط.

              فاختلفت العلماء لتعارض هـذه الأحاديث، فقال قوم: البيع فاسد والشرط فاسد، وممن قال بهذا: الشافعي وأبو حنيفة .

              وقال قوم: البيع جائز والشرط جائز، وممن قال بهذا القول: ابن أبي شبرمة .

              وقال قوم: البيع جائز والشرط باطل، وممن قال بهذا القول: ابن أبي ليلى .

              وقال أحمد بن حنبل : البيع جائز مع شرط واحد، وأما مع شرطين فلا..

              ولمالك تقسيمات طويلة في الشروط التي تبطل والتي تجيز، وليس هـنا شرح كل مذهب ودليله الذي استند إليه من السنة...

              والفقهاء حين يجتهدون يتصببون عرقا ولا يعبثون، ويتحرون رضاء الله لا رضاء حاكم أو محكوم، وإذا رد أحدهم حديثا فلدليل آخر أقوى، قد يكون أجود عنده، أو فهما أصوب في نص آخر، ولا يمكن وصف هـذا المسلك بأنه رد للسنة الشريفة...

              ألا ترى أن عمر بن الخطاب عندما رد حديث فاطمة بنت قيس في سكنى المطلقة ثلاثا - قال: تصويبا لعمله ـ: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت!

              أي: أن الرد للراوي لا لصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ! وسواء أخطأ عمر في اجتهاده أو أصاب فلا موضع للشغب على صدق اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وحرصه على سنته.. [ ص: 143 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية