الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا عبد الله بن عمران أبو القاسم القرشي المكي حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب ) أي : الزهري ( عن عبيد الله ) هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود [ ص: 209 ] وأخطأ من قال هو ابن أبي مليكة ذكره ميرك ( عن ابن عباس ) وقد رواه عنه الشيخان أيضا لكن مع تخالف في بعض الألفاظ وأحمد بزيادة ، ولا يسأل شيئا إلا أعطاه في آخر الحديث ( قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : في حد ذاته مع قطع النظر عن اختلاف أوقاته أو حالاته ( أجود الناس ) أي : أسخاهم وأكرمهم ( بالخير ) أي : مآلا وحالا فالخير شامل لجميع أنواعه حالا ومآلا من بذل العلم والخلق والمال والجاه إفضالا وإكمالا فكان يسمح بالموجود لكونه مطبوعا على الجود مستغنيا عن الفانيات بالباقيات الصالحات مقبلا على مولاه معرضا عما سواه فكان إذا وجد جاد وإذا أحسن أعاد ، وإن لم يجد وعد ولم يخلف بالميعاد وكان يجود على كل أحد بما يسد خلته ويشفي غلته فأجود أفعل تفضيل من الجود ، وهو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ولما كان نفسه الأنفس أشرف النفوس الأقدس فيكون أخلاقه أفضل أخلاق الخلائق فيكون أجود الناس ، ولعل ذكر الناس بالخصوص لكونه فردا منهم فلا مفهوم له عند من قال به ( وكان أجود ما يكون في شهر رمضان ) الرفع في " أجود " أجود على ما روي في أكثر الروايات كما صرح به العسقلاني على أنه اسم كان وخبره محذوف حذفا واجبا إذ هو نحو " أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة " وما مصدرية ومعناه أجود أكوانه ، وفي رمضان في محل الحال واقع موقع الخبر الذي هو حاصل فمعناه أجود أكوانه حاصلا في رمضان .

وقد أخرج المصنف من حديث سعد مرفوعا " إن الله جواد يحب الجود " .

وفي رواية الأصيلي بالنصب على أنه خبر كان واسمه ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة كونه في رمضان أجود من نفسه في غيره ، وقيل كان فيها ضمير الشأن وأجود مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر ، وهو ما يكون وما مصدرية وخبره في رمضان والجملة مفسرة لضمير الشأن ، والحاصل أن النصب أظهر والرفع أشهر ، وقال النووي : الرفع أشهر والنصب جائز ، وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين وذكر ابن الحاجب في أماليه للرفع خمسة أوجه فتوارد مع ابن مالك في وجهين وزاد ثلاثة ولم يعرج على النصب قال العسقلاني : ويرجح الرفع وروده بدون كان عند البخاري في كتاب الصوم وفضائل القرآن قلت : إذا كان من نواسخ المبتدأ والخبر كما هو مقرر فالترجيح بوجود الرفع عند عدمها لا يظهر فتدبر ، وقيل الوقت مقدر أي : كان أجود أوقاته وقت كونه في رمضان وإسناد الجود إلى أوقاته كإسناد الصوم إلى النهار والقيام إلى الليل في قولك : نهاره صائم وليله قائم لإرادة المبالغة وجمع المصدر ؛ لأن أفعل التفضيل لا يضاف إلى المفرد ( حتى ينسلخ ) أي : يتم رمضان ، والمعنى أن زيادة جوده من أثر وجوده كانت تستمر في جميع أوقات رمضان إلى أن ينسلخ فحينئذ يرجع إلى أصل الجود الزائد على جود الناس جميعا وليس كما توهم الحنفي بقوله أي : كمال جوده كان في تمام شهر رمضان اللهم إلا أن يراد بالتمام الجميع وذلك من البديع ؛ لأن هذا القول صدر منه بعد تفسير " ينسلخ " [ ص: 210 ] بـ " يتم " فتأويله لا يتم ، وإنما كان يظهر منه - صلى الله عليه وسلم - آثار الجود في رمضان أكثر مما يظهر منه في غيره ؛ لأنه موسم الخيرات ولأن الله تعالى يتفضل على عباده في ذلك الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره من الأوقات وكان - صلى الله عليه وسلم - متخلقا بأخلاق ربه ، فالجار متعلق بأجود لتضمنه معنى أسرع أو لكون المرسلة ينشأ عنها جود كثير ( فيأتيه جبريل ) أي : أحيانا في رمضان ، فالفاء للتفصيل لا كما قال الحنفي : وتبعه ابن حجر أنها للتعليل لعدم مناسبته للمقام فإنه يوهم أن زيادة جوده إنما كانت لملاقاة جبريل ، والظاهر وجود زيادة الجود في رمضان مطلقا على سائر الزمان ، نعم يزيد عند ملاقاته ومدارسته القرآن كما يدل عليه قوله الآتي فإذا لقيه جبريل كان أجود ، ولا ينافيه ما ورد في رواية البخاري حين يلقاه جبريل ، وفي أخرى له ؛ لأن جبريل يلقاه ، وإن قال العسقلاني : وفيه بيان سبب الأجودية ، وهي أبين من رواية حين يلقاه ؛ لأن كلامه محمول على الأجودية على سائر الأزمنة الرمضانية ( فيعرض ) بكسر الراء ( عليه ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبريل عليه السلام ( القرآن ) كما يدل عليه رواية الصحيحين كان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن ويؤيده ما روي أن قراءة زيد بن ثابت هي القراءة التي قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه أو بالعكس أو تارة كذا وتارة كذا بحسب المقام والمرام على أن الأصل المعتاد قراءة جبريل وسماعه - صلى الله عليه وسلم - وكذا قراءته - صلى الله عليه وسلم - وسماع أصحابه وهكذا طريقة المحدثين من السلف ، وأما الخلف فاختاروا أن التلميذ يقرأ والشيخ يسمعه لعدم القابلية الكاملة للمتأخرين قال ميرك : وفاعل يعرض يحتمل أن يكون جبريل وضمير عليه راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو ظاهر السياق ويحتمل العكس ويؤيده ما وقع في رواية البخاري يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن هكذا أورده في كتاب فضائل القرآن مع أنه ترجم بلفظ " كان جبريل يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال العسقلاني في شرح الحديث : هذا عكس ما وقع في الترجمة ؛ لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض على جبريل وكان البخاري أشار في الترجمة إلى ما وقع في بعض طرق الحديث فعند الإسماعيلي من إسرائيل عن أبي حصين بلفظ " كان جبريل يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في كل رمضان " فأشار إلى أن كلا منهما كان يعرض على الآخر ويؤيده ما وقع عند البخاري أيضا بلفظ فيدارسه القرآن ، وفي حديث فاطمة قالت : أسر إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل كان يعارضني بالقرآن إذ المدارسة والمعارضة مفاعلة من الجانبين فأفاد أن كلا منهما تارة يقرأ ويسمع الآخر قال : وفي رواية للبخاري وكان يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان حتى ينسلخ أي رمضان ، وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن ، ولا يختص برمضان بعد الهجرة ، وإن كان صيام شهر [ ص: 211 ] رمضان إنما هو فرض بعد الهجرة ؛ لأنه كان يسمى رمضان قبل أن يفرض صيامه قلت : ولعل مدارسة القرآن كان سببا لوجوب صيامه واستحباب قيامه كما يشير إليه قوله سبحانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ثم قال : وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه ؛ لأن أول رمضان من بعد السنة الأولى لم يكن ينزل من القرآن إلا بعضه ، ثم كذلك إلى أن نزلت اليوم أكملت لكم دينكم يوم عرفة والنبي بها بالاتفاق ، قال : وفي الحديث أن ليل رمضان أفضل من نهاره لا سيما للقراءة فإن المقصود من التلاوة الحضور والفهم ، والليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل الدينية والعوارض الدنيوية قلت ويدل عليه قوله تعالى إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا قال : وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند قال : قلت للشعبي : قوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أوما كان ينزل عليه في سائر السنة قال : بلى ولكن جبريل كان يعارض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ما أنزل فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قال : ولا يعارض ذلك قوله تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إذا قلنا لا نافية كما هو المشهور وقول الأكثر ؛ لأن المعنى أنه إذا أقرأه لا ينسى ما قرأه ومن جملة الإقراء مدارسة جبريل أو المراد أن المنفي بقوله " فلا تنسى " النسيان الذي لا ذكر بعده لا النسيان الذي يعقبه الذكر في الحال ، قلت لهذا ورد في دعاء ختم القرآن : اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت .

قال : واختلف في العرضة الأخيرة هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها ، وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان الناس أو غيره فقد روى أحمد وأبو داود والطبراني من طريق عبيدة بن عمر والسلماني أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة ومن طريق محمد بن سيرين قال كان جبريل يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في آخره نحو حديث ابن عباس ، وزاد في آخره فيرون أن قراءتنا أحدث القرآن عهدا بالعرضة الأخيرة وعند الحاكم نحو من حديث سمرة وإسناده حسن ، وقد صححه هو .

ولفظه عرض القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرضات ويقولون إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة ومن طريق مجاهد عن ابن عباس قال : أي القراءتين ترون آخر القراءة قالوا : قراءة زيد أي : ابن ثابت قال لا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على جبريل فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين فكانت قراءة ابن مسعود آخرها ، وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه ويمكن الجمع بأن يكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين فيصح إطلاق الأخير على كل منهما قلت ليس الكلام في صحة الإطلاق بل إنما الكلام على أن العرضة الأخيرة هي محل الاتفاق ( فإذا لقيه جبريل ) لا سيما عند قراءة التنزيل ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير ) أي : أسخى ببذل الخير ( من الريح المرسلة ) حيث لا التفات لها إلى أشياء تمر عليها ، والمرسلة بفتح السين بمعنى المطلقة فالجار متعلق [ ص: 212 ] بأجود لتضمنه معنى أسرع أو لكون المرسلة ينشأ عنها جود كثير قيل يعني أجود منها في عموم النفع والإسراع فيه ، وقيل هي التي أرسلت بالبشرى بين يدي رحمته سبحانه ، وذلك لشمول روحها وعموم نفعها فاللام في الريح على الأول للجنس وعلى الثاني للعهد وحاصله أنه شبه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد وشتان ما بين الأثرين فأحدهما يحيي القلب بعد موته والآخر يحيي الأرض بعد موتها كما أفاده الكرماني ، ولا شك أن الثاني تابع للأول مسخر له فلذا قال أجود من الريح المرسلة ، وجملة الكلام في مقام المرام أنه وقع تخصيص على سبيل الترقي في الكلام ؛ لأنه فضل أولا جوده على جميع أفراد الإنسان وثانيا جوده في رمضان على جوده في سائر الزمان وثالثا عند لقاء جبريل ومعارضة القرآن فإنه حينئذ كان أجود مما يتصور في الأذهان وما ذاك إلا لإتيان أفضل ملائكة الرحمن إلى أفضل سامع بأفضل كلام من أفضل متكلم في أفضل الزمان والمكان ، وفيه تبيان إلى أن فضيلة الزمان وملاقاة صلحاء الإخوان لهما مزية للعبادة والإحسان وتحسين الأخلاق والإتقان والإتيان ، هذا ، وروى الشيخان عن أنس كان أعقل الناس وأشجع الناس وأجود الناس يعني وعلى هذا القياس ، وقيل اقتصاره على هذه الثلاثة من جوامع الكلم فإنها أمهات الأخلاق إذ لا يخلو كل إنسان من ثلاث قوى : العقلية ، وكمالها النطق بالحكمة ، والغضبية وكمالها الشجاعة ، والشهوية وكمالها الجود كذا ذكره ابن حجر لكنه في الجامع الصغير برواية الشيخين والترمذي وابن ماجه عن أنس كان أحسن الناس إلى آخره وبرواية مسلم وأبي داود عنه أيضا كان أحسن الناس خلقا .

وفي حديث ضعيف ( أنا أجود بني آدم وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه ورجل جاهد بنفسه في سبيل الله .

، ثم كان من جوده أنه كان يبذل المال في سبيل الله وللمؤلفة قلوبهم إعلاء لدينه ويؤثر الفقراء والمحتاجين على نفسه وأولاده فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك والأغنياء ويعيش في نفسه عيش الفقراء فربما كان يمر الشهران عليه ولم يوقد في بيته نار وربما ربط الحجر على بطنه الشريف من الجوع ومع هذا كان له قوة إلهية في الجماع بأنه كان متبصرا في أمره مع كثرة نسائه وكذا في الشجاعة حتى صرع جمعا ، منهم ابن الأسود الجمحي وكان يقف على جلد البقر ويجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه .

ومنهم ركانة حيث صرعه ثلاث مرات متواليات بشرط أنه إن صرع أسلم ، وقد أتاه سبي فشكت إليه فاطمة - رضي الله عنها - ما تلقاه من الرحى والخدمة وطلبت منه خادما يكفها المؤنة فأمرها أن تستعين عند نومها بالتسبيح والتحميد والتكبير من كل ثلاثا وثلاثين إلا في الأخير فتزيد واحدا تكملة للمائة ، وقال لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع وكسته امرأة بردة فلبسها محتاجا إليها فسأله فيها بعض أصحابه فأعطاه إياها رواه البخاري ورحم الله صاحب البردة حيث عبر عن جوده بالزبدة في قوله :

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم .

[ ص: 213 ] تحقيق معناه في شرحي العمدة ، هذا وفي رواية مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما سئل شيئا قط إلا أعطاه فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .

، وروى المصنف أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ، ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منها وجاءت امرأة يوم حنين أنشدته شعرا تذكره به أيام رضاعته في هوازن فرد عليها ما قيمته خمسمائة ألف ألف قال ابن دحية : وهذا نهاية الرد الذي لم يسمع بمثله في الوجود من غاية الجود .

وفي البخاري أنه أتي بمال من البحرين فأمر بصبه في المسجد وكان أكثر مال أتي به فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاء العباس فسأله فقال له خذ فحثى في ثوبه ، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي فقال لا فقال ارفعه أنت علي فقال لا فنثر منه ، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال كالأول فقال لا ، ثم نثر منه ، ثم احتمله فأتبعه - صلى الله عليه وسلم - بصره عجبا من حرصه فما قام - صلى الله عليه وسلم - ومنها درهم .

وفي خبر مرسل أنه كان مائة ألف درهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية