الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة ) بفتح مهملة فكسر موحدة أي : ابن عمر ( السلماني ) بفتح السين ، وسكون اللام ، ويفتح منسوب إلى بني سلمان قبيلة من مراد ( عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأعرف آخر أهل النار ) أي : عن عصاة المؤمنين ( خروجا ) منصوب على التمييز ، وفي بعض النسخ المصححة خروجا من النار ( رجل ) قيل اسمه جهينة بصيغة التصغير أو هناد الجهني ( يخرج منها زحفا ) مفعول مطلق بغير لفظه أو حال أي : زاحفا ، والزحف : المشي على الاست مع إشراف الصدر ، وفي رواية حبوا بفتح الحاء ، وسكون الموحدة ، وهو المشي على اليدين ، والرجلين أو الركبتين أو المقعد ، ولا تنافي بين الروايتين لأن أحدهما قد يراد به الآخر أو أنه يزحف تارة ، ويحبوا أخرى ( فيقال له انطلق ) أي : اذهب ( فادخل الجنة قال : فيذهب ليدخل ) أي : الجنة لكي يدخلها أي : فيسرع ليدخلها ( فيجد الناس قد أخذوا المنازل ) فيقال له أتذكر الزمان الذي كنت فيه أي : في الدنيا ، والمعنى أتقيس زمنك هذا الذي أنت فيه الآن بزمنك الذي كنت في الدنيا إن الأمكنة إذا امتلأت بالساكنين لم يكن للاحق مسكن فيها ( فيقول نعم ; فيقال له تمن ) أي : من كل جنس ، ونوع تشتهي من وسع الدار ، وكثرة الأشجار ، والثمار ; فإن لك مع امتلائها مساكن كثيرة ، وأماكن كبيرة ، وجنات تجري من تحتها الأنهار كلها على طريق خرق العادة بقدرة الملك الغفار ( قال : فيتمن ) أي : فيسأل ما يعد محالا ( فيقال له ; فإن لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا ) أي : ولا تقس حال الأخرى على الأولى فإن تلك دار ضيق ، ومحنة وهذه دار سعة ، ومنحة ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فيقول ) أي : من غاية الفرح ، والاستبشار ، ونهاية الانبساط وطي بساط الأدب مع الجبار ( أتسخر ) أي : تستهزئ ( بي ) وفي نسخة بالنون بدل الباء الموحدة ، وهما روايتان لكن الأصول المعتمدة ، والنسخ المصححة على الباء الموحدة [ ص: 24 ] وعكس ابن حجر القضية تبعا لبعض الشراح ، وجعل النون أصلا ثم قال : وفي رواية أتسخر بي ، والأولى أفصح ، وأشهر ، وبها جاء القرآن .

قيل وعندي تسخر بالباء لتضمنه معنى تهزأ قلت أما لغة ففي القاموس سخر منه وبه كفرح هزئ ; فهاتان لغتان فصيحتان ، ولا شك أن الأفصح هو ما ورد به القرآن ، وقد جاء بالأولى منهما حيث قال تعالى فيسخرون منهم سخر الله منهم وقال - عز وجل - وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ولا نعرف في القرآن تعديته بالباء ، ولا بنفسه مطلقا ، ولا في اللغة هذا المعنى نعم جاء سخره كمنعه سخريا بالكسر ويضم، كلفه ما لا يريد وقهره على ما في القاموس ، ولا مرية أنه غير مراد في هذا المقام ، فالقول بكونه أفصح ، وأشهر خطأ رواية ، ودراية والقول بالتضمن مستدرك مستغنى عنه لتحققه لغة ، فرواية النون تحمل على نزع الخافض ، والمعنى أتستهزئ مني ( وأنت الملك ) أي : والحال إنك الملك العظيم الشأن عظيم البرهان وأنا العبد الذليل المستهان وإليك المشتكى ، وأنت المستعان .

والحاصل أنه صدر منه هذا على سبيل الدهش ، والتحير والغرور لما ناله من السرور بكثرة الحور ، والقصور مما كان لم يخطر بباله ، ولم يتصور في آماله من حسن ما له ; فلم يكن حينئذ ضابطا لأقواله ، ولا عالما بما يترتب عليه من جريان حاله بل جرى لسانه بمقتضى عادته في مخاطبة أهل زمانه ، ومحاورة أصحابه وإخوانه . نظيره ما روي عمن قال ممن لم يضبط نفسه حالة غاية الفرح في الدعاء حيث صدر منه سبقاللسان بقوله أنت عبدي ، وأنا ربك مكان أنت ربي ، وأنا عبدك ، وهذا ما عليه الشراح ، وخطر لي أنه يمكن أن يكون المخاطب بهذا المقال واحد من الملائكة على ما يفهم من قوله ; فيقال ( قال ) أي : ابن مسعود ( فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه ) جمع الناجذ ، وهو آخر الأسنان على المشهور ، وقيل هي الأضراس كلها ، وقيل بل هي التي تلي الأنياب ، واستدل هذا القائل بأنه - صلى الله عليه وسلم - بذلك كان جل ضحكه التبسم فلا يصح وصفه بإبداء أقصى الأسنان فالوجه في وصفه صلى الله عليه وسلم أن يراد المبالغة في الضحك من غير أن يوصف بإبداء نواجذه حقيقة ، وحاصله أن النواجذ بمعنى أقصى السنان لغة لكنه رفض هذا المعنى الحقيقي هنا ، وعدل إلى إرادة المعنى المجازي لقصد المبالغة كقول بعض الناس ضحك فلان حتى بدت نواجذه ، وقصدهم به المبالغة في الضحك إذ ليس في إبداء ما وراء الناب مبالغة ; فإنه يظهر بأول مراتب الضحك .

وأغرب ميرك حيث قال : وهذا غاية من التحقيق ، ونهاية وهو من جملة علوم المعاني ، والبيان ، والبديع التي هي زبدة العلوم العربية عمدة كلام علماء التفسير ، والحديث في الآيات القرآنية ، والروايات النورانية التي يظهر بها كمال الإعجاز ، وظهور الإطناب ، والإيجاز ، وبيان الحقيقة والمجاز ، وبلوغ مبلغ البلاغة ، وحصول مفصح الفصاحة المنبئة عن ظهور النبوة ، والرسالة .

وأغرب ميرك حيث قال : وكم ترى ممن ضاق عطنه ، وجفا عن العلم بجوهر الكلام ، واستخراج الأحكام التي تنتحيها العرب لا تساعد اللغة ; فيهدم ما بنيت عليه الأوضاع ، ويخترع من تلقاء نفسه [ ص: 25 ] وضعا مستحدثا لا تعرفه العرب الموثوق بعربيتهم ، ولا العلماء الأثبات الذين تلقوها عنهم ، واحتاطوا ، وتأنقوا في تلقيها ، وتداوينها ; فيضل ، ويضل والله حسيبه ; فإن ذلك أكثر ما يجري منه القرآن الحكيم .

قلت لو حمل ما في القرآن العظيم على ما تداولته العرب فيما بينهم من اليد ، والعين ، والاستواء ، وغيرها لوقوع جميع الناس في فساد الاعتقاد من التجسيم ، والتشبيه ، وإثبات الجهة ، وغير ذلك مما يتنزه عنه رب العباد .

فالمخلص من مثل هذا في الآية ، والحديث أحد الأمرين إما التفويض ، والتسليم كما هو طريق أكثر السلف، أو التأويل اللائق بالمقام دفعا لتوهم فوهم العوام كما سبيل غالب الخلف ، والثاني أضبط وأحكم ، والأول أحوط وأسلم والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية