الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في بيان الإحياء قال الأصحاب : المعتبر ما يعد إحياء في العرف ، ويختلف باختلاف ما يقصد به . وتفصيله بمسائل .

                                                                                                                                                                        إحداها : إذا أراد المسكن ، اشترط التحويط بالآجر أو اللبن أو الطين أو القصب أو الخشب بحسب العادة ، ويشترط أيضا تسقيف البعض ونصب الباب على الصحيح فيهما . الثانية : إذا أراد زريبة للدواب ، أو حضيرة يجفف فيها الثمار أو يجمع فيها الحطب أو الحشيش ، اشترط التحويط ، ولا يكفي نصب سعف وأحجار من غير بناء ، لأن المتملك لا يقتصر على مثله في العادة ، وإنما يفعله المجتاز . ولو حوط البناء في طرف ، واقتصر للباقي على نصب الأحجار والسعف ، حكى الإمام عن القاضي ، أنه [ يكفي ] ، وعن شيخه : المنع . ولا يشترط التسقيف هنا . وفي تعليق الباب ، الخلاف السابق . .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إذا أراد مزرعة ، اشترط أمور . أحدها : جمع التراب حواليه لينفصل المحيا عن غيره . وفي معناه : نصب قصب وحجر وشوك ، ولا حاجة إلى التحويط . وقال الشيخ أبو حامد : عندي [ ص: 290 ] إذا صارت الأرض مزرعة بماء سيق إليها ، فقد تم الإحياء وإن لم يجمع التراب حولها .

                                                                                                                                                                        الثاني : تسوية الأرض بطم المنخفض وكسح المستعلي وحراثتها وتليين ترابها ، فإن لم يتيسر ذلك إلا بماء يساق إليها ، فلا بد منه لتتهيأ للزراعة . الثالث : ترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر ، أو بحفر بئر أو قناة وسقيها ، هل يشترط ذلك ؟ أطلق جماعة اشتراطه ، والأصح ما ذكره ابن كج وغيره : أن الأرض إن كانت بحيث يكفي لزراعتها ماء السماء ، لم يشترط السقي وترتيب ماء على الصحيح . وإن كانت تحتاج إلى ماء يساق إليها ، اشترط تهيئة ماء من عين أو بئر أو غيرهما . وإذا هيأه ، نظر ، إن حفر له الطريق ولم يبق إلا إجراء الماء ، كفى ، ولم يشترط الإجراء ، ولا سقي الأرض . وإن لم يحفر بعد ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        وأما أرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء ، فمال صاحب " التقريب " إلى أنه لا مدخل للإحياء فيها ، وبه قال القفال وبنى عليه : أما إذا وجدنا شيئا من تلك الأرض في يد إنسان ، لم نحكم بأنه ملكه ، ولا نجوز بيعه وإجارته .

                                                                                                                                                                        ومن الأصحاب من قال : يملك بالحراثة وجمع التراب على الأطراف ، واختاره القاضي حسين . ولا تشترط الزراعة ، لحصول الملك في المزرعة على الأصح ، لأنها استيفاء منفعة وهو خارج عن الإحياء ، وكما لا يشترط في الدار أن يسكنها .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الرابعة : إذا أراد بستانا أو كرما ، فلا بد من التحويط ، والرجوع فيما يحوط به إلى العادة ، قاله ابن كج . وقال : فإن كانت عادة البلد بناء جدار ، اشترط البناء . وإن كان عادتهم التحويط بالقصب والشوك وربما تركوه أيضا كما في البصرة وقزوين ، اعتبرت عادتهم ، وحينئذ يكفي جمع التراب حواليه كالمزرعة . والقول في سوق الماء إليه كما سبق في المزرعة . ويعتبر غرس الأشجار على المذهب ، وبه قطع الجمهور .

                                                                                                                                                                        [ ص: 291 ] وقيل : لا يعتبر إذا لم يعتبر الزرع في المزرعة . والفرق على المذهب ، أن اسم المزرعة يقع على الأرض قبل الزرع ، بخلاف البستان قبل الغرس ، ولأن الغرس يدوم فألحق بأبنية الدار ، بخلاف الزرع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        طرق الأصحاب متفقة على أن الإحياء يختلف باختلاف ما يقصده المحيي من مسكن وحظيرة وغيرهما . وذكر الإمام شيئين . أحدهما : أن القصد إلى الإحياء هل يعتبر لحصول الملك ؟ فقال : ما لا يفعله في العادة إلا المتملك كبناء الدار واتخاذ البستان ، يفيد الملك وإن لم يوجد قصد . وما يفعله المتملك وغيره ، كحفر البئر في الموات ، وكزراعة قطعة من الموات اعتمادا على ماء السماء ، إن انضم إليه قصد ، أفاد الملك ، وإلا ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        وما لا يكتفي به المتملك ، كتسوية موضع النزول ، وتنقيته عن الحجارة ، لا يفيد الملك . وإن قصده شبه ذلك بالاصطياد بنصب الأحبولة في مدارج الصيود يفيد ملك الصيد . وإغلاق الباب إذا دخل الصيد الدار على قصد التملك ، يفيد الملك . ودونه وجهان . وتوحل الصيد في أرضه التي سقاها ، لا يفيد الملك وإن قصده .

                                                                                                                                                                        الشيء الثاني : إذا قصد نوعا وأتى بما يقصد به نوع آخر ، أفاد الملك ، حتى إذا حوط البقعة يملكها وإن قصد المسكن ، لأنه مما يملك به الزريبة لو قصدها . قال الإمام الرافعي رحمه الله تعالى : أما الكلام الأول ، فمقبول لا يلزم [ منه ] مخالفة الأصحاب ، بل إن قصد شيئا اعتبرنا في كل مقصود ما فصلوه ، وإلا ، نظرنا فيما أتى به وحكمنا بما ذكره .

                                                                                                                                                                        وأما الثاني ، فمخالفته لما ذكره الأصحاب صريحة ، لما فيه من الاكتفاء بأدنى العمارات أبدا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 292 ] فرع

                                                                                                                                                                        إذا حفر بئرا في الموات للتملك ، لم يحصل الإحياء ما لم يصل إلى الماء . وإذا وصل ، كفى إن كانت الأرض صلبة ، وإلا ، فيشترط أن تطوى . وقال الإمام : لا حاجة إليه . وفي حفر القناة ، يتم الإحياء بخروج الماء وجريانه . ولو حفر نهرا ليجري الماء فيه على قصد التملك ، فإذا انتهى رأس النهر الذي يحفره إلى النهر القديم ، وجرى الماء فيه ، ملكه ، كذا قاله البغوي وغيره .

                                                                                                                                                                        وفي " التتمة " : أن الملك لا يتوقف على إجراء الماء فيه ، لأنه استيفاء منفعة كالسكون في الدار .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الثاني ، أقوى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية