الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في الحمى

                                                                                                                                                                        هو أن يحمي بقعة من الموات لمواش بعينها ، ويمنع سائر الناس الرعي فيها ، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمي لخاصة نفسه ، ولكنه لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما حمى النقيع لإبل الصدقة ونعم الجزية وخيل المجاهدين .

                                                                                                                                                                        قلت : النقيع بالنون عند الجمهور ، وهو الصواب . وقيل : بالباء الموحدة ، وبقيع الغرقد بالباء قطعا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأما غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فليس للآحاد الحمى قطعا ، ولا للائمة لأنفسهم ، وفي حماهم لمصالح المسلمين ، قولان . أظهرهما : الجواز . وقيل : يجوز قطعا . فإذا [ ص: 293 ] جوزناه ، فهل يختص بالإمام الأعظم ، أم يجوز أيضا لولاته في النواحي ؟ وجهان حكاهما ابن كج وغيره . أصحهما : الثاني . وسواء حمى لخيل المجاهدين ، أم لنعم الجزية والصدقة ، والضوال ، ومال الضعفاء عن الإبعاد في طلب النجعة ، ثم لا يحمي إلا الأقل الذي لا يبين ضرره على الناس ولا يضيق الأمر عليهم ، ثم ما حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نص ، فلا ينقض ولا يغير بحال ، هذا هو المذهب .

                                                                                                                                                                        وقيل : إن بقيت الحاجة التي حمى لها ، لم يغير . وإن زالت ، فوجهان . أصحهما : المنع ، لأنه تغيير المقطوع بصحته باجتهاد . وأما حمى غيره - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا ظهرت المصلحة في تغييره ، جاز نقضه ورده إلى ما كان على الأظهر رعاية للمصلحة . وفي قول : لا يجوز كالمقبرة والمسجد . وقيل : يجوز للحامي نقض حماه ، ولا يجوز لمن بعده من الأئمة ، وإذا جوزنا نقضه ، فأحياه رجل بإذن الإمام ، ملكه وكان الإذن في الإحياء نقضا .

                                                                                                                                                                        وإن استقل المحيي ، فوجهان . ويقال : قولان منصوصان . أصحهما : المنع ، لما فيه من الاعتراض على تصرف الإمام وحكمه .

                                                                                                                                                                        قلت : بقيت من الحمى مسائل مهمة .

                                                                                                                                                                        منها : لو غرس أو بنى أو زرع في النقيع ، نقضت عمارته ، وقلع زرعه وغرسه ، ذكره القاضي أبو حامد في جامعه . منها : أن الحمى ينبغي أن يكون عليه حفاظ من جهة الإمام أو نائبه ، وأن يمنع أهل القوة من إدخال مواشيهم ، ولا يمنع الضعفاء ، ويأمره الإمام بالتلطف بالضعفاء من أهل الماشية ، كما فعل عمر - رضي الله عنه - . قال القاضي أبو حامد : فإن كان للإمام ماشية لنفسه ، لم يدخلها الحمى ، لأنه من أهل القوة . فإن فعل فقد ظلم المسلمين . ومنها : لو دخل الحمى من هو من أهل القوة ، فرعى ماشيته ، قال أبو حامد : [ ص: 294 ] فلا شيء عليه ، ولا غرم ولا تعزير ، ولكن يمنع من الرعي ، ونقل ابن كج أيضا عن نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه لا غرم عليه ، وليس هذا مخالفا لما ذكرناه في كتاب الحج ، أن من أتلف شيئا من شجر النقيع أو حشيشه ضمنه على الأصح .

                                                                                                                                                                        ومنها : أن عامل الصدقات إذا كان يجمعها في بلد ، هل له أن يحمي موضعا لا يتضرر به أهل البلد ليرعاها فيه ؟ قال أبو حامد : قيل : له ذلك ، ولم يذكر خلافه . وقال ابن كج : إن منعنا حمى الإمام ، فذلك أولى ، وإلا ، فقولان . ومنها : لا يجوز للإمام أن يحمي الماء المعد لشرب خيل الجهاد وإبل الصدقة والجزية وغيرها بلا خلاف ، ذكره الشيخ نصر في " تهذيبه " . قال أصحابنا : إذا حمى الإمام ، وقلنا : لا يجوز حماه ، فهو على أصل الإباحة ، من أحياه ، ملكه .

                                                                                                                                                                        ومنها : أنه يحرم على الإمام وغيره من الولاة أن يأخذ من أصحاب المواشي عوضا عن الرعي في الحمى أو الموات ، وهذا لا خلاف فيه ، وقد نص عليه الماوردي في الأحكام وقاله آخرون . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية