ولما أنهى - سبحانه - بيان الحق؛ بالدلائل القاطعة؛ والبراهين الساطعة؛ بالتهديد بالأخذ؛ وكان الأخذ على وجه التهديد عقابا؛ وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب؛ قال - دالا على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب -: ولا ؛ أي: يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم؛ وقدرة عليكم؛ والحال أنه لا تزر ؛ أي: تحمل يوم القيامة؛ أو عند الإذهاب؛ ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله؛ والمعصوم [ ص: 33 ] من عصم الله؛ قال: وازرة ؛ دون "نفس"؛ أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم؛ وزر ؛ أي: حمل؛ وثقل؛ أخرى ؛ لتعذب به؛ بل كل واحد منكم له مما كسبت يداه ما تقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة؛ وتسببا؛ مع تفاوتكم في الوزر؛ ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو؛ لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها؛ كما تفعل جبابرة الدنيا.
ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر؛ ونفى أن يحمل أحد وزر غيره؛ وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال؛ أو الأشخاص؛ وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ؛ نفى ذلك الإيهام؛ ودل على القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر؛ وإن كان أخذهم في آن واحد؛ بقوله: وإن تدع ؛ أي: نفس؛ مثقلة ؛ أي: بالذنوب؛ سواء كانت كفرا؛ أو غيره؛ أحدا إلى حملها ؛ أي: الخاص بها من الذنوب؛ التي ليست على غيرها بمباشرة؛ ولا تسبب؛ ليخفف عنها؛ فيخفف العذاب بسبب خفته؛ لا يحمل ؛ أي: من حامل ما؛ منه شيء ؛ أي: لا طواعية؛ ولا كرها؛ بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلا وتسببا؛ ولو كان ؛ ذلك الداعي؛ أو المدعو للحمل؛ ذا قربى ؛ لمن دعاه؛ وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره؛ بل بذنب نفسه؛ والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم. [ ص: 34 ] ولما كان هذا أمرا - مع كونه جليا - خالعا للقلوب؛ فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى؛ فقال - مزيلا لهذا العجب على سبيل النتيجة -: إنما تنذر ؛ أي: إنذارا يفيد الرجوع عن الغي؛ فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار؛ وهو كما قال القشيري: الإعلام بموضع المخافة؛ الذين يخشون ؛ أي: يوقعون هذا الفعل في الحال؛ ويواظبون عليه في الاستقبال؛ ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن؛ لأن أقل عقابه قطع إحسانه؛ قال: ربهم
ولما كان أوفى الناس عقلا؛ وأعلاهم همة؛ وأكرمهم عنصرا؛ من كانت غيبته مثل حضوره؛ وكان لا يحتاج - مع قول الداعي؛ وما يظهر له من سمته؛ وحسن قوله؛ وفعله - إلى آية يظهرها؛ ولا خارقة يبرزها؛ وإنما إيمانه تصديقا للداعي في إخباره بالأمر المغيب؛ من غير كشف غطاء؛ قال: بالغيب ؛ أي: حال كونهم غائبين عما دعوا إليه؛ وخوفوا به؛ أو حال كونه غائبا عنهم؛ أو غائبين عمن يمكن مراءاته؛ فهم مخلصون في خشيتهم سواء؛ بحيث لا يطلع عليهم إلا الله؛ ولا نعلم أحدا وازى ؛ خديجة - رضي الله عنهما - في ذلك. والصديق
ولما كانت [ ص: 35 ] الصلاة جامعة لخضوع الظاهر؛ والباطن؛ فكانت أشرف العبادات؛ وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص؛ قال - معبرا بالماضي؛ لأن مواقيت الصلاة مضبوطة -: وأقاموا ؛ أي: دليلا على خشيتهم؛ الصلاة ؛ في أوقاتها الخمسة؛ وما يتبع ذلك من السنن.
ولما كان التقدير: فمن كان على غير ذلك تدسى؛ ومن كان على هذا فقد تزكى؛ ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه؛ عطف عليه قوله - مشيرا بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس؛ فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم -: ومن تزكى ؛ أي: تطهر؛ وتكثر بهذه المحاسن؛ ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له؛ وخاص به؛ أكده؛ فقال: فإنما يتزكى لنفسه ؛ فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها؛ وإلى الله ؛ الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث؛ لا إلى غيره؛ المصير ؛ كما كان منه المبدأ؛ فيجازي كلا على فعله؛ فينصف بينك وبين من خشي ربه؛ بإنذارك ومن أعرض عن ذلك.