الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 533 ] ولما حذر - سبحانه - في هذه السورة؛ ولا سيما في هذه الآيات؛ فطال التحذير؛ وأودعها من التهديد؛ وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير؛ وختم بالحث على الإيمان؛ والنظر السديد في العرفان؛ وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست؛ ونفرت؛ وأوحشت؛ وصدت عن العطف وأبعدت؛ قال (تعالى) - مستعطفا؛ مترفقا بالشاردين عن بابه؛ متلطفا؛ جامعا بين العاطفين كلام ذوي النعمة؛ على لسان نبي الرحمة؛ صارفا القول إلى خطابه؛ بعد أسلوب الغيبة -: قل ؛ أي: يا أكرم الخلق؛ وأرحمهم بالعباد؛ ولفت عما تقتضيه "قل"؛ من الغيبة إلى معنى الخطاب؛ زيادة في الاستعطاف؛ وزاد في الترفق بذكر العبودية؛ والإضافة إلى ضميره؛ عريا عن التعظيم؛ فقال: يا ؛ أي: ربكم المحسن إليكم يقول: يا عبادي ؛ فلذذهم بعد تلك المرارات؛ بحلاوة الإضافة إلى جنابه؛ تقريبا من بابه؛ ولما أضاف؛ طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين؛ فرفعوا رؤوسهم؛ ونكس العاصون؛ وقالوا: من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال؟ فقال (تعالى) - جابرا لهم -: الذين أسرفوا ؛ أي: تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها؛ حتى صارت لهم أحمال ثقال؛ على أنفسهم ؛ فأبعدوها عن الحضرات الربانية؛ وأركسوها في الدنايا الشيطانية؛ فانقلب الحال؛ فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا؛ وزالت ذلتهم؛ والذين رفعوا [ ص: 534 ] رؤوسهم أطرقوا؛ وزالت صولتهم؛ قاله القشيري؛ وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر؛ إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير؛ لا تقنطوا ؛ أي: ينقطع رجاؤكم؛ وتيأسوا؛ وتمتنعوا؛ وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم؛ وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم؛ الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام؛ فقال: من رحمة الله ؛ أي: إكرام المحيط بكل صفات الكمال؛ فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة؛ التي هي باب الرحمة؛ ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم؛ ثم علل ذلك بقوله - على سبيل التأكيد؛ لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران؛ وحتمت الجزاء بالانتقام؛ وكرر الاسم الأعظم؛ تعظيما للحال؛ وتأكيدا بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم -: إن الله ؛ أي: الجامع لجميع نعوت الجمال؛ والجلال والإكرام؛ فكما أنه متصف بالانتقام؛ هو متصف بالعفو؛ والغفران؛ يغفر ؛ إن شاء؛ الذنوب ؛ ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده؛ فقال: جميعا ؛ ولا يبالي؛ لكنه سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه؛ وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة؛ وإن شاء بلا توبة؛ ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا؛ بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم؛ قام عليه جنده؛ فانحل عقده؛ وانثلم حده؛ [ ص: 535 ] علل هذه العلة بما يخصه؛ فقال - مؤكدا لاستبعاد ذلك؛ بالقياس على ما يعهدون -: إنه هو ؛ أي: وحده؛ الغفور ؛ أي: البليغ المغفرة؛ بحيث يمحو الذنوب؛ مهما شاء؛ عينا وأثرا؛ فلا يعاقب؛ ولا يعاتب؛ الرحيم ؛ أي: المكرم بعد المغفرة؛ ولا يقدر أحد أصلا على نوع اعتراض عليه؛ ولا توجيه طعن إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية