ولما كانوا قد جبلوا على الضلال؛ وكان النفور قد يكون لأمر محمود؛ أو مباح؛ علله بقوله: استكبارا ؛ أي: طلبا لإيجاد الكبر لأنفسهم؛ في الأرض ؛ أي: التي من شأنها السفول؛ [ ص: 75 ] والتواضع؛ والخمول؛ ومكر السيئ ؛ أي: ولأجل مكرهم المكر الذي من شأنه أن يسوء صاحبه؛ وغيره؛ وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإطفاء نور الله؛ وقراءة عبد الله : "ومكرا سيئا"؛ تدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته؛ وقراءة بإسكان الهمزة؛ بنية الوقف؛ إشارة إلى تدقيقهم المكر؛ وإتقانه؛ وإخفائه جهدهم؛ حمزة ولا ؛ أي: والحال أنه لا يحيق ؛ أي: يحيط إحاطة لازمة ضارة؛ المكر السيئ ؛ أي: الذي هو عريق في السوء؛ إلا بأهله ؛ وإن آذى غير أهله؛ لكنه لا يحيط بذلك الغير؛ وعن أنه قال: بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الزهري "لا تمكروا؛ ولا تعينوا ماكرا؛ فإن الله يقول هذه الآية؛ ولا تبغوا؛ ولا تعينوا باغيا؛ يقول الله: إنما بغيكم على أنفسكم ؛ ولا تنكثوا؛ ولا تعينوا ناكثا؛ قال الله: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ".
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها؛ قال - مسببا عن ذلك -: فهل ينظرون ؛ أي: ينتظرون؛ ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر؛ ويمكن أن يكون من النظر بالعين؛ لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين؛ مع العلم بأن عادته مستمرة؛ لأنه لا مانع له منها؛ لعظيم تحققه؛ وشدة استيقانه؛ وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر؛ لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت؛ لأن غيره بالنسبة إليه عدم؛ ولما جعل استقبالهم لذلك انتظارا منهم له؛ وكان الاستفهام [ ص: 76 ] إنكاريا؛ فكان بمعنى النفي؛ قال: إلا سنت الأولين ؛ أي: طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم؛ وإنزال العذاب بهم.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب؛ وذكاء في النفس؛ عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق؛ تنبيها على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره؛ فسبب عن حصر النظر؛ أو الانتظار في ذلك؛ قوله - مؤكدا؛ لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم؛ وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم -: فلن تجد ؛ أي: أصلا؛ في وقت من الأوقات؛ لسنت الله ؛ أي: طريقة الملك الأعظم؛ التي شرعها؛ وحكم بها؛ وهي إهلاك العاصين؛ وإنجاء الطائعين؛ تبديلا ؛ أي: من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلا لها؛ لأنه لا مكافئ له؛ ولن تجد لسنت الله ؛ أي: الذي لا أمر لأحد معه؛ تحويلا ؛ أي: من حالة إلى أخفى منها؛ لأنه لا مرد لقضائه؛ لأنه لا كفؤ له؛ وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب؛ فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيرا؛ ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة؛ تبرؤا من الحول؛ والقوة؛ لعل الله يسلمه في عاقبته.