مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولما لم يخص الله أحدا من الأزواج دون غيره ولم يدل على ذلك سنة ولا إجماع كان على كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض ، وكذلك كل زوجة لزمها الفرض ، ولعانهم كلهم سواء لا يختلف القول فيه والفرقة ونفي الولد ، وتختلف الحدود لمن وقعت له وعليه " .
قال الماوردي : وهذا كما قال . ، ومع كل زوجة صح منها فعل الزنا ، سواء كانا مسلمين أو كافرين أو أحدهما مسلما والآخر كافرا ، وسواء كانا حرين أو مملوكين ، أو أحدهما حرا والآخر مملوكا ، وسواء كانا عفيفين أو محدودين في قذف أو أحدهما عفيفا والآخر محدودا ، وبه قال من التابعين : اللعان يمين تصح من كل زوج صح طلاقه وظهاره الحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار . ومن الفقهاء : ربيعة ، ومالك ، والليث بن سعد ، وسفيان الثوري ، وابن شبرمة ، وأحمد ، وإسحاق .
وقال أبو حنيفة ، وصاحباه : ، فإن كانا كافرين أو أحدهما ، أو مملوكين أو أحدهما ، أو محدودين في قذف أو أحدهما ، لم يصح لعانه . اللعان شهادة لا تصح إلا من مسلمين حرين ، عفيفين
وبه قال الزهري والأوزاعي ، واستدل على أن اللعان شهادة بقول الله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور : 6 ] فدلت هذه الآية على أن اللعان شهادة من وجهين :
أحدهما : قوله : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم .
فاستثناهم من الشهداء بأن جعلهم شهداء لأنفسهم ، والاستثناء من الجملة داخل في جنسها .
[ ص: 13 ] والثاني : قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فعبر عنه بلفظ الشهادة وعلق عليه عدد الشهادة في الزنا ، فدل اللفظ والعدد على أنه شهادة . وقال : ولأن ما لا يصح إلا بلفظ الشهادة لم يكن يمينا وكان شهادة اعتبارا بسائر الشهادات ، قال : ولأنه رفع حكم القذف فوجب أن يكون شهادة كالبينة ، واستدل على أنه لا يصح منهما إذا كان أحدهما كافرا أو مملوكا أو محدودا . برواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : : النصرانية واليهودية تحت مسلمين ، والحرة تحت مملوك ، والمملوكة تحت حر أربع من النساء لا لعان بينهن وبين أزواجهن قالوا : هذا نص ، قالوا : ولأن كل من لم يكمل الحد بقذفها لم يصح اللعان بينها وبين زوجها كالصغيرة ، قالوا : ولأن اللعان بين الزوجين كالحد في حق الأجانب ، فلما لم يجب الحد إلا بقذف حرة مسلمة لم يصح اللعان إلا من حرة مسلمة ، : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في زوجة والدليل على أن اللعان يمين وليس شهادة هلال بن أمية حين جاءت بولدها على النعت المكروه : فسمى اللعان يمينا ، ولأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه وإن جاز أن يحلف لها ، وكل واحد من الزوجين يلاعن عن حق لنفسه فثبت أنه يمين وليس بشهادة ، ولأنه لو كان شهادة لما لزم تكراره أربعا ؛ لأن الشهادة لا تكرر ، والأيمان قد تكرر ، ولأن الشهادة لا يتضمنها لعن ولا غضب ، ولأن المرأة لا تساوي الرجل في الشهادة وتساويه في الأيمان ، وهي في اللعان مساوية للرجل ، فثبت أنه يمين ، ولأن لفظ اللعان أن يقول : أشهد بالله ، ولا خلاف أن قول الإنسان في غير اللعان : أشهد بالله ، أنه يمين ، فكذلك في اللعان ولأنه لو كان شهادة لما صح لعان الفاسقين ، ولا من الأعميين التحصن وقد وافق على صحة لعان هذين فدل على أنه يمين وليس بشهادة ، والدليل على أنه يصح من الكافرين والمملوكين عموم قوله تعالى : لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن والذين يرمون أزواجهم [ النور : 6 ] ولم يفرق ، ولأن كل زوج صح طلاقه صح لعانه كالحر المسلم ، ولأن كل ما خرج به الزوج من قذفه إذا كان من أهل الشهادة خرج به من القذف إن لم يكن معه أهل الشهادة كالبينة ، ولأنه ما وقعت به الفرقة بين الزوجين المسلمين وقعت به الفرقة بين الكافرين والمملوكين كالطلاق ، وأما الجواب عن استدلالهم في أنه شهادة بقوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه لما أضاف الشهادة إلى نفسه خرجت من حكم الشهادات ؛ لأنه لا يصح أن يشهد لنفسه .
والثاني : أنه وإن كان بلفظ الاستثناء ، فمن حكم الاستثناء أن يكون مخالفا لحكم المستثنى منه .
[ ص: 14 ] أما الجواب عن استدلاله منهما بقوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فمن وجهين :
أحدهما : أنه قد يعبر عن اليمين بالشهادة ، كما قال تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ، 2 ] إلى قوله : اتخذوا أيمانهم جنة فعبر عن أيمانهم بالشهادة .
والثاني : أنه لما سلب لفظ الشهادة في هذا الموضع حكم الشهادات وأجري عليه حكم الأيمان من أربعة أوجه :
أحدهما : أنه أثبت قوله في حق نفسه .
والثاني : أنه أوجب عليه تكرار لفظه .
والثالث : أنه قرنه باللعان والغضب .
والرابع : أنه وصله بذكر الله ، في قوله : أشهد بالله ، دل على أنه يمين بلفظ الشهادة .
وأما الجواب عن قولهم : إن ما لم يصح إلا بلفظة الشهادة كان شهادة ، فهو أن أصحابنا قد اختلفوا في جواز على وجهين : اللعان بغير لفظ الشهادة
أحدهما : يجوز أن يقول : أحلف بالله ، وأقسم بالله ، وأولي بالله . كما يقول : أشهد بالله - لأن هذا صريح في اليمين فكان أولى بالجواز ، فعلى هذا يسقط الاستدلال .
والوجه الثاني : لا يجوز إلا بلفظ الشهادة على ما جاء به النص ؛ لأن حكمه مأخوذ منه ، فعلى هذا يكون الجواب متوجها ، وهو أنه لما قرن لفظ الشهادة بذكر الله خرج عن حكم الشهادات المجردة عن ذكر الله ، وألحق بالأيمان المضافة إلى اسم الله .
وأما الجواب عن قولهم : إنه قد يرفع حكم القذف كالبينة ، فهو أن الإقرار قد يرفع حكم القذف ولا يكون بينة .
وأما الجواب عن استدلالهم في الفصل الثاني بحديث عمرو بن شعيب فمن ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن أبا يحيى الساجي قال : هذا حديث لا يثبته أصحاب الحديث ، وإذا قال إمام من أصحاب الحديث هذا ، سقط الاحتجاج به .
والثاني : أنه مرسل ، وليست المراسيل عندنا حجة ، وذلك أن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وجده الأدنى ليس له صحبة ورواية ، فإذا روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده كان الظاهر أنه عن محمد بن عبد الله لأنه جده الأدنى ، فمن هذا الوجه صار مرسلا لا يلزم الاحتجاج به .
[ ص: 15 ] والثالث : أننا نسلم الحديث ، ونحمل قوله : لا لعان بين أربع ، إلا عند حاكم ، فإن قيل : فغيرهم لا يجوز لعانه إلا عند الحاكم ، فما فائدة التخصص ؟
قيل : فائدته أنه يجوز أن يتوهم فيهم - لنقصهم بالكفر والرق - جواز ، لعان العبد عند سيده ، فنفى النص هذا التوهم ، على أن ولعان الكافر في أهل دينه أبا إسحاق المروزي قال : لو صح الحديث وجب المصير إليه والقول به ، غير أنه لم يصح .
وأما الجواب عن قياسهم على الصغيرة : فهو أن للصغيرة حالتين : حالة يمكن وطؤها ، فاللعان فيها يصح ويكون موقوفا على بلوغها ، لأن قذفها بالزنا يمكن أن يكون صدقا ، ويمكن أن يكون كذبا .
والحال الثانية : أن تكون صغيرة لا يمكن وطء مثلها ، فالقذف هنا مستحيل للعلم بكذبه ، فخرج عن القذف المحتمل للصدق والكذب ، فإذا استحال صدقه لم يجز أن يقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين كمن يجوز صدقه ، فلم يجز الجمع بين متنافيين .
أما الجواب عن قولهم : إن اللعان بين الزوجين كالحد في حق الأجانب ؛ فهو أنه غير مسلم ، بل لعان الزوج يمين في حق نفسه في سقوط حد القذف عنه ؛ وكالشهادة في حق الزوجة لوجوب حد الزنا عليها ، والشهادة تسمع على الكافرة والمملوكة ، فكذا اللعان .