الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وتقبل الوكالة في تثبيت البينة على الحدود ، فإذا أراد أن يقيم الحد أو يأخذ اللعان أحضر المأخوذ له الحد واللعان ، وأما حدود الله سبحانه وتعالى فتدرأ بالشبهات " . قال الماوردي : أما الوكالة في تثبيت الحد والقصاص ، فجائزة لأمرين : أحدهما : أن ما صح أن يباشر تثبيته ، صح أن يوكل فيه كسائر الحقوق . والثاني : أنه ربما عجز مستحقها عن تثبيت الحجة فيها وتجوز عنها ، فجاز التوكيل في الحالين كما يجوز في سائر الحقوق ، فإذا صحت الوكالة في تثبيت الحد والقصاص لم يكن للوكيل أن يستوفيهما ما لم يوكل في الاستيفاء ، لأن فعل الوكيل مقصور على ما أذن له فيه فلم يتجاوز بالتثبيت الاستيفاء ؛ لأنه غير مأذون فيه ، فإن وكله في الاستيفاء فظاهر ما قاله هاهنا وفي كتاب الوكالة : أنه لا يجوز ، وظاهر ما قاله في الجنايات جوازه . فاختلف أصحابنا فيه على وجهين : أحدهما : أنه على اختلاف قولين : أحدهما : لا يجوز التوكيل في استيفاء الحدود والقصاص إلا بمشهد من الوكيل ، فإن غاب لم يجز لأمرين : أحدهما : أن الدماء والأعراض لا تستباح إلا بيقين ، ويجوز أن يعفو الموكل إذا غاب ولا يعلم الوكيل . [ ص: 148 ] والثاني : أن مستحق ذلك مندوب إلى العفو ، وقد يرجى بحضوره أن يرق قلبه فيعفو ، فلم يجز أن يغيب عنه . والقول الثاني : يجوز التوكيل في استيفائه مع غيبة الموكل لما قدمناه من المعنيين في جواز التوكيل ، فهذا أحد وجهي أصحابنا وهو قول أكثرهم . والوجه الثاني : أنه ليس على اختلاف قولين ، إنما هو على اختلاف حالين ، فالموضع الذي جوزه فيه إذا استأنف التوكيل في استيفائه بعد ثبوته . والموضع الذي منع من جوازه فيه إذا جمع في التوكيل بين تثبيته واستيفائه ؛ لأن الظاهر من الجمع بينهما ظهور القدرة ليعفو عن قدره ، فلم يجز الاستيفاء إلا بحضوره ، وإذا وكل بعد ثبوته فقد عرفت قدرته وليس من عفوه ولم يبق له قصد غير الاستيفاء فصح أن ينفرد به وكيله ، وقد لوح بهذا الفرق أبو علي بن أبي هريرة ، فأما اللعان فلا يصح فيه التوكيل والاستنابة ؛ لأنه يمين أو شهادة ، والنيابة لا تصح في واحد منهما ، وأما حد الزنا فيجوز للإمام أن يستنيب في تثبيته واستيفائه ؛ لأن عفوه عنه بعد ثبوته لا يصح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنيس ، اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وبالله التوفيق . [ ص: 149 ] باب الوقت في نفي الولد ومن ليس له أن ينفيه ونفي ولد الأمة من كتابي لعان قديم وجديد قال الشافعي رحمه الله : " وإذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم أو من يلقاه له إمكانا بينا فترك اللعان ، لم يكن له أن ينفيه كما يكون بيع الشقص فيه الشفعة ، وإن ترك الشفيع في تلك المدة لم تكن الشفعة له ، ولو جاز أن يعلم بالولد فيكون له نفيه حتى يقر به جاز بعد أن يكون الولد شيخا وهو مختلف معه اختلاف الولد ، ولو قال قائل : يكون له نفيه ثلاثا وإن كان حاضرا كان مذهبا ، وقد منع الله من قضى بعذابه ثلاثا ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمهاجر بعد قضاء نسكه في مقام ثلاث بمكة وقال في القديم : إن لم يشهد من حضره بذلك في يوم أو يومين لم يكن له نفيه ( قال المزني ) : لو جاز في يومين جاز في ثلاثة وأربعة في معنى ثلاثة ، وقد قال لمن جعل له نفيه في تسع وثلاثين وأباه في أربعين : ما الفرق بين الصمتين ؟ فقوله في أول الثانية أشبه عندي بمعناه ، وبالله التوفيق . قال الماوردي : وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة - رحمه الله - في المدة التي يجوز نفي الولد فيها ، وحكي عن شريح والشعبي أنهما جوزا له نفيه ما لم يقر به وإن صار شيخا فجعل الإقرار به شرطا في لحوق نسبه . وفي هذا إبطال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر لأنهما يجعلان الولد للإقرار دون الفراش . وقال أبو يوسف بنفيه إلى ستة أشهر وهي مدة أقل الحمل . وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - بنفيه إلى أربعين يوما هي أكثر مدة النفاس عنده وفيه على مذهب الشافعي - رضي الله عنه - قولان : أحدهما : له نفيه إلى مدة ثلاثة أيام بعد علمه ، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رحمه الله - لأنه لا يستغني عن الارتياء والتفكير ، ولقاء حاكم وفقيه حتى لا يستلحق ولدا ليس منه ، ولا ينفي ولدا هو منه ، فأجل قليل الزمان المعتبر في استحقاق الخيار ، وهو ثلاثة أيام . [ ص: 150 ] والقول الثاني : أن نفيه بعد العلم به معتبر بالإمكان على الفور من غير تأخير ، لأن كل ما لزم بالسكوت ، فمدة لزومه معتبرة بالإمكان بعد علمه كالرد بالعيب والأخذ بالشفعة ، ولأن كل خيار تعلق بالنكاح كان معتبرا بالفور كالخيار بالعيوب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية